الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البرهان في علوم القرآن ***
ِلنَّاظِرِ فِي الْقُرْآنِ لِطَلَبِ التَّفْسِيرِ مَآخِذُ كَثِيرَةٌ أُمَّهَاتُهَا أَرْبَعَةٌ: الْأَوَّلُ: النَّقْلُ عَنِ النَّبِيِّ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي يَنْبَغِي لِلْمُفَسِّرِ مُرَاعَاتُهَا- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَهَذَا هُوَ الطِّرَازُ الْأَوَّلُ، لَكِنْ يَجِبُ الْحَذَرُ مِنَ الضَّعِيفِ فِيهِ وَالْمَوْضُوعِ؛ فَإِنَّهُ كَثِيرٌ. وَإِنَّ سَوَادَ الْأَوْرَاقِ سَوَادٌ فِي الْقَلْبِ. قَالَ الْمَيْمُونِيُّ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يَقُولُ: ثَلَاثُ كُتُبٍ لَيْسَ لَهَا أُصُولٌ؛ الْمَغَازِي، وَالْمَلَاحِمُ، وَالتَّفْسِيرُ. قَالَ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَصْحَابِهِ: وَمُرَادُهُ أَنَّ الْغَالِبَ أَنَّهَا لَيْسَ لَهَا أَسَانِيدُ صِحَاحٌ مُتَّصِلَةٌ، وَإِلَّا فَقَدَ صَحَّ مِنْ ذَلِكَ كَثِيرٌ. فَمِنْ ذَلِكَ تَفْسِيرُ الظُّلْمِ بِالشِّرْكِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} (الْأَنْعَامِ: 82) وَتَفْسِيرُ الْحِسَابِ الْيَسِيرِ بِالْعَرْضِ، رَوَاهُمَا الْبُخَارِيُّ. وَتَفْسِيرُ الْقُوَّةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} (الْأَنْفَالِ: 60) بِالرَّمْيِ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَبِذَلِكَ يُرَدُّ تَفْسِيرُ مُجَاهِدٍ بِالْخَيْلِ. وَكَتَفْسِيرِ الْعِبَادَةِ بِالدُّعَاءِ، فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} (الْمُؤْمِنِ: 60).
الثَّانِي: الْأَخْذُ بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ، فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ فَإِنَّ تَفْسِيرَهُ عِنْدَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْمَرْفُوعِ إِلَى النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَمَا قَالَهُ الْحَاكِمُ فِي تَفْسِيرِهِ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: يُحْتَمَلُ أَلَّا يُرْجَعَ إِلَيْهِ إِذَا قُلْنَا إِنَّ قَوْلَهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ؛ وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الرِّوَايَةِ لَا الرَّأْيِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مَسْرُوقٍ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: وَالَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ مَا نَزَلَتْ آيَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَّا وَأَنَا أَعْلَمُ فِيمَنْ نَزَلَتْ، وَأَيْنَ نَزَلَتْ؛ وَلَوْ أَعْلَمُ مَكَانَ أَحَدٍ أَعْلَمَ بِكِتَابِ اللَّهِ مِنِّي تَنَالُهُ الْمَطَايَا لَأَتَيْتُهُ. وَقَالَ أَيْضًا: كَانَ الرَّجُلُ مِنَّا إِذَا تَعَلَّمَ عَشْرَ آيَاتٍ لَمْ يَتَجَاوَزْهُنَّ، حَتَّى يَعْلَمَ مَعَانِيهِنَّ، وَالْعَمَلَ بِهِنَّ. وَصُدُورُ الْمُفَسِّرِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ: عَلِيٌّ، ثُمَّ ابْنُ عَبَّاسٍ- وَهُوَ تَجَرَّدَ لِهَذَا الشَّأْنِ- وَالْمَحْفُوظُ عَنْهُ أَكْثَرُ مِنَ الْمَحْفُوظِ عَنْ عَلِيٍّ، إِلَّا أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ أَخَذَ عَنْ عَلِيٍّ- وَيَتْلُوهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَكُلُّ مَا وَرَدَ عَنْ غَيْرِهِمْ مِنَ الصَّحَابَةِ فَحَسَنٌ مُقَدَّمٌ. مَسْأَلَةٌ وَفِي الرُّجُوعِ إِلَى قَوْلِ التَّابِعِيِّ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ، وَاخْتَارَ ابْنُ عَقِيلٍ الْمَنْعَ، وَحَكَوْهُ عَنْ شُعْبَةَ، لَكِنَّ عَمَلَ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى خِلَافِهِ. وَقَدْ حَكَوْا فِي كُتُبِهِمْ أَقْوَالَهُمْ كَالضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَقَتَادَةَ، وَأَبِي الْعَالِيَةِ الرِّيَاحَيِّ، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، وَمُقَاتِلِ بْنِ سُلَيْمَانَ، وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيِّ، وَمُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ، وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ الْوَالِبِيِّ، وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، وَأَبِي بَكْرٍ الْأَصَمِّ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَيْسَانَ، وَإِسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّدِّيِّ، وَعِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ، وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ. فَهَذِهِ تَفَاسِيرُ الْقُدَمَاءِ الْمَشْهُورِينَ، وَغَالِبُ أَقْوَالِهِمْ تَلَقَّوْهَا مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلَعَلَّ اخْتِلَافَ الرِّوَايَةِ عَنْ أَحْمَدَ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا كَانَ مِنْ أَقْوَالِهِمْ وَآرَائِهِمْ. وَمِنَ الْمُبَرَّزِينَ فِي التَّابِعِينَ: الْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، ثُمَّ يَتْلُوهُمْ عِكْرِمَةُ وَالضِّحَاكُ- وَإِنْ لَمْ يَلْقَ ابْنَ عَبَّاسٍ، وَإِنَّمَا أَخَذَ عَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ. وَأَمَّا عِلْمُ السُّدِّيِّ فَكَانَ عَامِرٌ الشَّعْبِيُّ يَطْعَنُ عَلَيْهِ وَعَلَى أَبِي صَالِحٍ لِأَنَّهُ كَانَ يَرَاهُمَا مُقَصِّرَيْنِ فِي النَّظَرِ. وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو أَحْمَدَ بْنُ عَدِيٍّ فِي كِتَابِهِ الْكَامِلِ: لِلْكَلْبِيِّ أَحَادِيثٌ صَالِحَةٌ، وَخَاصَّةً عَنْ أَبِي صَالِحٍ، وَهُوَ مَعْرُوفٌ بِالتَّفْسِيرِ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ تَفْسِيرٌ أَطْوَلُ مِنْهُ، وَلَا أَشْبَعُ مِنْهُ، وَبَعْدَهُ مُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ؛ إِلَّا أَنَّ الْكَلْبِيَّ يُفَضَّلُ عَلَى مُقَاتِلٍ؛ لِمَا فِي مُقَاتِلٍ مِنَ الْمَذَاهِبِ الرَّدِيئَةِ. ثُمَّ بَعْدَ هَذِهِ الطَّبَقَةِ أُلِّفَتْ تَفَاسِيرُ تَجْمَعُ أَقْوَالَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، كَتَفْسِيرِ: سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، وَوَكِيعِ بْنِ الْجَرَّاحِ، وَشُعْبَةَ بْنِ الْحَجَّاجِ، وَيَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، وَالْمُفَضَّلِ، وَعَبْدِ الرَّزَّاقِ بْنِ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيِّ، وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ، وَرَوْحِ بْنِ عُبَادَةَ، وَيَحْيَى بْنِ قُرَيْشٍ، وَمَالِكِ بْنِ سُلَيْمَانَ الْهَرَوِيِّ، وَعَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ الْكَسِّيِّ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْجَرَّاحِ، وَهُشَيْمِ بْنِ بَشِيرٍ، وَصَالِحِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْيَزِيدِيِّ، وَعَلِيِّ بْنِ حُجْرِ بْنِ إِيَاسٍ السَّعْدِيِّ، وَيَحْيَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْهَرَوِيِّ،........ وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ وَغَيْرِهِمْ، وَابْنِ مَرْدَوَيْهِ، وَسُنَيْدٍ، وَالنَّسَائِيِّ، وَغَيْرِهِمْ. وَوَقَعَ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ، وَالْبَزَّارِ، وَمُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ، وَغَيْرِهِمْ كَثِيرٌ مِنْ ذَلِكَ. ثُمَّ إِنَّ مُحَمَّدَ بْنَ جَرِيرٍ الطَّبَرِيَّ جَمَعَ عَلَى النَّاسِ أَشْتَاتَ التَّفَاسِيرِ، وَقَرَّبَ الْبَعِيدَ. وَكَذَلِكَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ الرَّازِيُّ. وَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ النَّقَّاشُ، وَأَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ، فَكَثِيرًا مَا اسْتَدْرَكَ النَّاسُ عَلَيْهِمَا، وَعَلَى سَنَنِهِمَا مَكِّيٌّ، وَالْمَهْدَوِيُّ حَسَنُ التَّأْلِيفِ، وَكَذَلِكَ مَنْ تَبِعَهُمْ كَابْنِ عَطِيَّةَ، وَكُلُّهُمْ مُتْقِنٌ مَأْجُورٌ، فَجَزَاهُمُ اللَّهُ خَيْرًا. تنبيه: [حول اختلاف الصحابة في التفسير] يَكْثُرُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ أَقْوَالُهُمْ وَاخْتِلَافُهُمْ، وَيَحْكِيهِ الْمُصَنِّفُونَ لِلتَّفْسِيرِ بِعِبَارَاتٍ مُتَبَايِنَةِ الْأَلْفَاظِ، وَيَظُنُّ مَنْ لَا فَهْمَ عِنْدِهِ أَنَّ فِي ذَلِكَ اخْتِلَافًا فَيَحْكِيهِ أَقْوَالًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ يَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ذَكَرَ مَعْنًى ظَهَرَ مِنَ الْآيَةِ، وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ أَظْهَرُ عِنْدَ ذَلِكَ الْقَائِلِ، أَوْ لِكَوْنِهِ أَلْيَقَ بِحَالِ السَّائِلِ. وَقَدْ يَكُونُ بَعْضُهُمْ يُخْبِرُ عَنِ الشَّيْءِ بِلَازِمِهِ وَنَظِيرِهِ، وَالْآخَرُ بِمَقْصُودِهِ وَثَمَرَتِهِ، وَالْكُلُّ يُؤَوَّلُ إِلَى مَعْنًى وَاحِدٍ غَالِبًا، وَالْمُرَادُ الْجَمِيعُ، فَلْيُتَفَطَّنْ لِذَلِكَ؛ وَلَا يُفْهَمْ مِنَ اخْتِلَافِ الْعِبَارَاتِ اخْتِلَافُ الْمُرَادَاتِ، كَمَا قِيلَ: عِبَارَاتُنَا شَتَّى وَحُسْنُكَ وَاحِدٌ *** وَكُلٌّ إِلَى ذَاكَ الْجَمَالِ يُشِيرُ هَذَا كُلُّهُ حَيْثُ أَمْكَنَ الْجَمْعُ، فَأَمَّا إِذَا لَمْ يُمْكِنُ الْجَمْعُ فَالْمُتَأَخِّرُ مِنَ الْقَوْلَيْنِ عَنِ الشَّخْصِ الْوَاحِدِ مُقَدَّمٌ عَنْهُ إِنِ اسْتَوَيَا فِي الصِّحَّةِ، وَإِلَّا فَالصَّحِيحُ الْمُقَدَّمُ، وَكَثِيرًا مَا يَذْكُرُ الْمُفَسِّرُونَ شَيْئًا فِي الْآيَةِ عَلَى جِهَةِ التَّمْثِيلِ لِمَا دَخَلَ فِي الْآيَةِ، فَيَظُنُّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهُ قَصَرَ الْآيَةَ عَلَى ذَلِكَ، وَلَقَدْ بَلَغَنِي عَنْ شَخْصٍ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَى الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ الشَّاذِلِيِّ قَوْلَهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} (الْبَقَرَةِ: 106) " مَا ذَهَبَ اللَّهُ بِوَلِيٍّ إِلَّا أَتَى بِخَيْرٍ مِنْهُ أَوْ مِثْلِهِ.
الثَّالِثُ: الْأَخْذُ بِمُطْلَقِ اللُّغَةِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ فَإِنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} (الشُّعَرَاءِ: 195) وَقَدْ ذَكَرَهُ جَمَاعَةٌ، وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي مَوَاضِعَ، لَكِنْ نَقَلَ الْفَضْلُ بْنُ زِيَادٍ عَنْهُ- وَقَدْ سُئِلَ عَنِ الْقُرْآنِ- تَمَثَّلَ لَهُ رَجُلٌ بِبَيْتٍ مِنَ الشِّعْرِ، فَقَالَ: مَا يُعْجِبُنِي. فَقِيلَ: ظَاهِرُهُ الْمَنْعُ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ: فِي جَوَازِ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ بِمُقْتَضَى اللُّغَةِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ، وَقِيلَ: الْكَرَاهَةُ تُحْمَلُ عَلَى مَنْ يَصْرِفُ الْآيَةَ عَنْ ظَاهِرِهَا إِلَى مَعَانٍ خَارِجَةٍ مُحْتَمَلَةٍ، يَدُلُّ عَلَيْهَا الْقَلِيلُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ، وَلَا يُوجَدُ غَالِبًا إِلَّا فِي الشِّعْرِ وَنَحْوِهِ، وَيَكُونُ الْمُتَبَادِرُ خِلَافَهَا. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ: لَا أُوتَى بِرَجُلٍ غَيْرِ عَالِمٍ بِلُغَاتِ الْعَرَبِ يُفَسِّرُ كِتَابَ اللَّهِ إِلَّا جَعَلْتُهُ نِكَالًا.
الرَّابِعُ: التَّفْسِيرُ بِالْمُقْتَضَى مِنْ مَعْنَى الْكَلَامِ وَالْمُقْتَضَبِ مِنْ قُوَّةِ الشَّرْعِ. وَهَذَا هُوَ الَّذِي دَعَا بِهِ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلِ. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- فِي كِتَابِ الْجِهَادِ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَلِيٍّ: هَلْ خَصَّكُمْ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِشَيْءٍ؟ فَقَالَ: مَا عِنْدَنَا غَيْرُ مَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ، أَوْ فَهْمٌ يُؤْتَاهُ الرَّجُلُ. وَعَلَى هَذَا قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الذَّوْقِ: لِلْقُرْآنِ نُزُولٌ وَتَنَزُّلٌ، فَالنُّزُولُ قَدْ مَضَى، وَالتَّنَزُّلُ بَاقٍ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ. وَمِنْ هَاهُنَا اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ فَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ بِرَأْيِهِ عَلَى مُنْتَهَى نَظَرِهِ فِي الْمُقْتَضَى. وَلَا يَجُوزُ تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ بِمُجَرَّدِ الرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ حُكْمُهُ مِنْ غَيْرِ أَصْلٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} (الْإِسْرَاءِ: 36) وَقَوْلِهِ: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (الْبَقَرَةِ: 169) وَقَوْلِهِ: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النَّحْلِ: 44) فَأَضَافَ الْبَيَانَ إِلَيْهِمْ. وَعَلَيْهِ حَمَلُوا قَوْلَهُ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ ، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طُرُقٍ، مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَوْلِهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: مَنْ تَكَلَّمَ فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ فَأَصَابَ فَقَدْ أَخْطَأَ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، وَقَالَ: غَرِيبٌ، مِنْ حَدِيثِ ابْنِ جُنْدُبٍ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ: هَذَا إِنْ صَحَّ، فَإِنَّمَا أَرَادَ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- الرَّأْيَ الَّذِي يَغْلِبُ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ قَامَ عَلَيْهِ، فَمِثْلُ هَذَا الَّذِي لَا يَجُوزُ الْحُكْمُ بِهِ فِي النَّوَازِلِ، وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ بِهِ. وَأَمَّا الرَّأْيُ الَّذِي يُسْنِدُهُ بُرْهَانٌ فَالْحُكْمُ بِهِ فِي النَّوَازِلِ جَائِزٌ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الصِّدِّيقِ: أَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي، وَأَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي إِذَا قُلْتُ فِي كِتَابِ اللَّهِ بِرَأْيِي. وَقَالَ فِي " الْمَدْخَلِ ": فِي هَذَا الْحَدِيثِ نَظَرٌ، وَإِنْ صَحَّ فَإِنَّمَا أَرَادَ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ-: فَقَدْ أَخْطَأَ الطَّرِيقَ، فَسَبِيلُهُ أَنْ يُرْجَعَ فِي تَفْسِيرِ أَلْفَاظِهِ إِلَى أَهْلِ اللُّغَةِ، وَفِي مَعْرِفَةِ نَاسِخِهِ وَمَنْسُوخِهِ، وَسَبَبِ نُزُولِهِ، وَمَا يَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى بَيَانِهِ إِلَى أَخْبَارِ الصَّحَابَةِ؛ الَّذِينَ شَاهَدُوا تَنْزِيلَهُ، وَأَدَّوْا إِلَيْنَا مَنْ سُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا يَكُونُ تِبْيَانًا لِكِتَابِ اللَّهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (النَّحْلِ: 44). فَمَا وَرَدَ بَيَانُهُ عَنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ، فَفِيهِ كِفَايَةٌ عَنْ ذِكْرِهِ مِنْ بَعْدِهِ، وَمَا لَمْ يَرِدْ عَنْهُ بَيَانٌ فَفِيهِ حِينَئِذٍ فِكْرَةُ أَهْلِ الْعِلْمِ بَعْدَهُ، لِيَسْتَدِلُّوا بِمَا وَرَدَ بَيَانُهُ عَلَى مَا لَمْ يَرِدْ. قَالَ: وَقَدْ يَكُونُ الْمُرَادُ بِهِ مَنْ قَالَ فِيهِ بِرَأْيِهِ مِنْ غَيْرِ مَعْرِفَةٍ مِنْهُ بِأُصُولِ الْعِلْمِ وَفُرُوعِهِ، فَتَكُونُ مُوَافَقَتُهُ لِلصَّوَابِ- وَإِنْ وَافَقَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْرِفُهُ- غَيْرُ مَحْمُودَةٍ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو الْحَسَنِ الْمَاوَرْدِيُّ فِي " نُكَتِهِ ": قَدْ حَمَلَ بَعْضُ الْمُتَوَرِّعَةِ هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَامْتَنَعَ مِنْ أَنْ يَسْتَنْبِطَ مَعَانِيَ الْقُرْآنِ بِاجْتِهَادِهِ. وَلَوْ صَحِبَتْهَا الشَّوَاهِدُ، وَلَمْ يُعَارِضْ شَوَاهِدَهَا نَصٌّ صَرِيحٌ، وَهَذَا عُدُولٌ عَمَّا تُعُبِّدْنَا بِمَعْرِفَتِهِ مِنَ النَّظَرِ فِي الْقُرْآنِ وَاسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ مِنْهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (النِّسَاءِ: 83). وَلَوْ صَحَّ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ لَمْ يُعْلَمْ شَيْءٌ إِلَّا بِالِاسْتِنْبَاطِ، وَلَمَا فَهِمَ الْأَكْثَرُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ شَيْئًا- وَإِنْ صَحَّ الْحَدِيثُ- فَتَأْوِيلُهُ أَنَّ مَنْ تَكَلَّمَ فِي الْقُرْآنِ بِمُجَرَّدِ رَأْيِهِ وَلَمْ يُعَرِّجْ عَلَى سِوَى لَفْظِهِ وَأَصَابَ الْحَقَّ فَقَدْ أَخْطَأَ الطَّرِيقَ، وَإِصَابَتُهُ اتِّفَاقٌ، إِذِ الْغَرَضُ أَنَّهُ مُجَرَّدُ رَأْيٍ لَا شَاهِدَ لَهُ، وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قَالَ: الْقُرْآنُ ذَلُولٌ ذُو وُجُوهٍ مُحْتَمَلَةٍ، فَاحْمِلُوهُ عَلَى أَحْسَنِ وُجُوهِهِ. وَقَوْلُهُ: ذَلُولٌ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ مُطِيعٌ لِحَامِلِيهِ، يُنْطَقُ بِأَلْسِنَتِهِمْ. الثَّانِي: أَنَّهُ مُوَضِّحٌ لِمَعَانِيهِ حَتَّى لَا تَقْصُرَ عَنْهُ أَفْهَامُ الْمُجْتَهِدِينَ. وَقَوْلُهُ: " ذُو وُجُوهٍ " يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ مِنْ أَلْفَاظِهِ مَا يَحْتَمِلُ وُجُوهًا مِنَ التَّأْوِيلِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ جَمَعَ وُجُوهًا مِنَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، وَالتَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ. وَقَوْلُهُ: " فَاحْمِلُوهُ عَلَى أَحْسَنِ وُجُوهِهِ " يَحْتَمِلُ أَيْضًا وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْحَمْلُ عَلَى أَحْسَنِ مَعَانِيهِ. وَالثَّانِي: أَحْسَنِ مَا فِيهِ مِنَ الْعَزَائِمِ دُونَ الرُّخَصِ، وَالْعَفْوِ دُونَ الِانْتِقَامِ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى جَوَازِ الِاسْتِنْبَاطِ وَالِاجْتِهَادِ فِي كِتَابِ اللَّهِ. وَقَالَ أَبُو اللَّيْثِ: النَّهْيُ إِنَّمَا انْصَرَفَ إِلَى الْمُتَشَابِهِ مِنْهُ؛ لَا إِلَى جَمِيعِهِ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} (آلِ عِمْرَانَ: 7) لِأَنَّ الْقُرْآنَ إِنَّمَا نَزَلَ حُجَّةً عَلَى الْخَلْقِ، فَلَوْ لَمْ يَجُزِ التَّفْسِيرُ لَمْ تَكُنِ الْحُجَّةُ بَالِغَةً؛ فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ جَازَ لِمَنْ عَرَفَ لُغَاتِ الْعَرَبِ وَشَأْنَ النُّزُولِ أَنْ يُفَسِّرَهُ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ وَلَمْ يَعْرِفْ وُجُوهَ اللُّغَةِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُفَسِّرَهُ إِلَّا بِمِقْدَارِ مَا سَمِعَ، فَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْحِكَايَةِ لَا عَلَى سَبِيلِ التَّفْسِيرِ، فَلَا بَأْسَ بِهِ وَلَوْ أَنَّهُ يَعْلَمُ التَّفْسِيرَ، فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَخْرِجَ مِنَ الْآيَةِ حِكْمَةً أَوْ دَلِيلًا لِحُكْمٍ فَلَا بَأْسَ بِهِ. وَلَوْ قَالَ: الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ كَذَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْمَعَ مِنْهُ شَيْئًا فَلَا يَحُلُّ، وَهُوَ الَّذِي نَهَى عَنْهُ. انْتَهَى. وَقَالَ الرَّاغِبُ فِي مُقَدِّمَةِ " تَفْسِيرِهِ ": اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ: هَلْ يَجُوزُ لِكُلِّ ذِي عِلْمٍ الْخَوْضُ فِيهِ؟ فَمِنْهُمْ مَنْ بَالَغَ وَمَنَعَ الْكَلَامَ- وَلَوْ تَفَنَّنَ النَّاظِرُ فِي الْعُلُومِ، وَاتَّسَعَ بَاعُهُ فِي الْمَعَارِفِ- إِلَّا بِتَوْقِيفٍ عَنِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، أَوْ عَمَّنْ شَاهَدَ التَّنْزِيلَ مِنَ الصَّحَابَةِ، أَوْ مَنْ أَخَذَ مِنْهُمْ مَنِ التَّابِعِينَ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: مَنْ فَسَّرَ الْقُرْآنَ بِرَأْيِهِ فَقَدْ أَخْطَأَ. وَفِي رِوَايَةِ: مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ فَقَدْ كَفَرَ. وَقِيلَ: إِنْ كَانَ ذَا مَعْرِفَةٍ وَأَدَبٍ فَوَاسِعٌ لَهُ تَفْسِيرُهُ؛ وَالْعُقَلَاءُ وَالْأُدَبَاءُ فَوْضَى فِي مَعْرِفَةِ الْأَغْرَاضِ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (ص: 29).
وَقَدْ رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي " تَفْسِيرِهِ ": حَدَّثَنَا الثَّوْرِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، " أَنَّهُ قَسَّمَ التَّفْسِيرَ إِلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ تَعْرِفُهُ الْعَرَبُ فِي كَلَامِهَا، مِنَ أَقْسَامِ التَّفْسِيرِ وَقِسْمٌ لَا يُعْذَرُ أَحَدٌ بِجَهَالَتِهِ؛ يَقُولُ مِنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَقِسْمٌ يَعْلَمُهُ الْعُلَمَاءُ خَاصَّةً، وَقِسْمٌ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، وَمَنِ ادَّعَى عِلْمَهُ فَهُوَ كَاذِبٌ. وَهَذَا تَقْسِيمٌ صَحِيحٌ. فَأَمَّا الَّذِي تَعْرِفُهُ الْعَرَبُ، فَهُوَ الَّذِي يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى لِسَانِهِمْ، وَذَلِكَ شَأْنُ اللُّغَةِ وَالْإِعْرَابِ. فَأَمَّا اللُّغَةُ فَعَلَى الْمُفَسِّرِ مَعْرِفَةُ مَعَانِيهَا، وَمُسَمَّيَاتِ أَسْمَائِهَا، وَلَا يَلْزَمُ ذَلِكَ الْقَارِئَ. ثُمَّ إِنْ كَانَ مَا تَتَضَمَّنُهُ أَلْفَاظُهَا يُوجِبُ الْعَمَلَ دُونَ الْعِلْمِ، كَفَى فِيهِ خَبَرُ الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالِاسْتِشْهَادُ بِالْبَيْتِ وَالْبَيْتَيْنِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُوجِبُ الْعِلْمَ دُونَ الْعَمَلِ لَمْ يَكْفِ ذَلِكَ، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَسْتَفِيضَ ذَلِكَ اللَّفْظُ، وَتَكْثُرُ شَوَاهِدَهُ مِنَ الشِّعْرِ. وَأَمَّا الْإِعْرَابُ؛ فَمَا كَانَ اخْتِلَافُهُ مُحِيلًا لِلْمَعْنَى وَجَبَ عَلَى الْمُفَسِّرِ وَالْقَارِئِ تَعَلُّمُهُ، لِيَتَوَصَّلَ الْمُفَسِّرُ إِلَى مَعْرِفَةِ الْحُكْمِ، وَلِيَسْلَمَ الْقَارِئُ مِنَ اللَّحْنِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحِيلًا لِلْمَعْنَى وَجَبَ تَعَلُّمُهُ عَلَى الْقَارِئِ لِيَسْلَمَ مِنَ اللَّحْنِ، وَلَا يَجِبُ عَلَى الْمُفَسِّرِ لِيَتَوَصَّلَ إِلَى الْمَقْصُودِ دُونَهُ؛ عَلَى أَنَّ جَهْلَهُ نَقْصٌ فِي حَقِّ الْجَمِيعِ. إِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ؛ فَمَا كَانَ مِنَ التَّفْسِيرِ رَاجِعًا إِلَى هَذَا الْقِسْمِ فَسَبِيلُ الْمُفَسِّرِ التَّوَقُّفُ فِيهِ عَلَى مَا وَرَدَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ، وَلَيْسَ لِغَيْرِ الْعَالَمِ بِحَقَائِقِ اللُّغَةِ وَمَفْهُومَاتِهَا تَفْسِيرُ شَيْءٍ مِنَ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، وَلَا يَكْفِي فِي حَقِّهِ تَعَلُّمُ الْيَسِيرِ مِنْهَا، فَقَدْ يَكُونُ اللَّفْظُ مُشْتَرَكًا وَهُوَ يَعْلَمُ أَحَدَ الْمَعْنَيَيْنِ. الثَّانِي: مَا لَا يُعْذَرُ وَاحِدٌ بِجَهْلِهِ، وَهُوَ مَا تَتَبَادَرُ الْأَفْهَامُ إِلَى مَعْرِفَةِ مَعْنَاهُ مِنْ أِقْسَامِ التَّفْسِيرِ مِنَ النُّصُوصِ الْمُتَضَمِّنَةِ شَرَائِعَ الْأَحْكَامِ وَدَلَائِلَ التَّوْحِيدِ؛ وَكُلَّ لَفْظٍ أَفَادَ مَعْنًى وَاحِدًا جَلِيًّا لَا سِوَاهُ يُعْلَمُ أَنَّهُ مُرَادُ اللَّهِ- تَعَالَى. فَهَذَا الْقِسْمُ لَا يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ، وَلَا يَلْتَبِسُ تَأْوِيلُهُ، إِذْ كَلُّ أَحَدٍ يُدْرِكُ مَعْنَى التَّوْحِيدِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} (مُحَمَّدٍ: 19) وَأَنَّهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي إِلَهِيَّتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ " لَا " مَوْضُوعَةٌ فِي اللُّغَةِ لِلنَّفْيِ، وَ " إِلَّا " لِلْإِثْبَاتِ وَأَنَّ مُقْتَضَى هَذِهِ الْكَلِمَةِ الْحَصْرُ، وَيَعْلَمُ كُلُّ أَحَدٍ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ مُقْتَضَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} (الْبَقَرَةِ: 43) وَنَحْوَهَا مِنَ الْأَوَامِرِ- طَلَبُ إِدْخَالِ مَاهِيَّةِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي الْوُجُودِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ صِيغَةَ " افْعَلْ " مُقْتَضَاهَا التَّرْجِيحُ وُجُوبًا أَوْ نَدْبًا، فَمَا كَانَ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ يَدَّعِي الْجَهْلَ بِمَعَانِي أَلْفَاظِهِ، لِأَنَّهَا مَعْلُومَةٌ لِكُلِّ أَحَدٍ بِالضَّرُورَةِ. الثَّالِثُ: مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى مِنْ أِقْسَامِ التَّفْسِيرِ فَهُوَ مَا يَجْرِي مَجْرَى الْغُيُوبِ نَحْوُ الْآيِ الْمُتَضَمِّنَةِ قِيَامَ السَّاعَةِ وَنُزُولَ الْغَيْثِ وَمَا فِي الْأَرْحَامِ، وَتَفْسِيرَ الرُّوحِ، وَالْحُرُوفَ الْمُقَطَّعَةِ. وَكُلُّ مُتَشَابِهٍ فِي الْقُرْآنِ عِنْدَ أَهْلِ الْحَقِّ فَلَا مَسَاغَ لِلِاجْتِهَادِ فِي تَفْسِيرِهِ، وَلَا طَرِيقَ إِلَى ذَلِكَ إِلَّا بِالتَّوْقِيفِ مِنْ أَحَدِ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: إِمَّا نَصٌّ مِنَ التَّنْزِيلِ، أَوْ بَيَانٌ مِنَ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، أَوْ إِجْمَاعُ الْأُمَّةِ عَلَى تَأْوِيلِهِ؛ فَإِذَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ تَوْقِيفٌ مِنْ هَذِهِ الْجِهَاتِ عَلِمْنَا أَنَّهُ مِمَّا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِعِلْمِهِ. وَالرَّابِعُ: مَا يَرْجِعُ إِلَى اجْتِهَادِ الْعُلَمَاءِ، مِنْ أِقْسَامِ التَّفْسِيرِ وَهُوَ الَّذِي يَغْلِبُ عَلَيْهِ إِطْلَاقُ التَّأْوِيلِ؛ وَهُوَ صَرْفُ اللَّفْظِ إِلَى مَا يُؤَوَّلُ إِلَيْهِ فَالْمُفَسِّرُ نَاقِلٌ، وَالْمُؤَوِّلُ مُسْتَنْبِطٌ، وَذَلِكَ اسْتِنْبَاطُ الْأَحْكَامِ، وَبَيَانُ الْمُجْمَلِ، وَتَخْصِيصُ الْعُمُومِ. وَكُلُّ لَفْظٍ احْتَمَلَ مَعْنَيَيْنِ فَصَاعِدًا فَهُوَ الَّذِي لَا يَجُوزُ لِغَيْرِ الْعُلَمَاءِ الِاجْتِهَادُ فِيهِ، وَعَلَى الْعُلَمَاءِ اعْتِمَادُ الشَّوَاهِدِ وَالدَّلَائِلِ، وَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَعْتَمِدُوا مُجَرَّدَ رَأْيِهِمْ فِيهِ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. وَكُلُّ لَفْظٍ احْتَمَلَ مَعْنَيَيْنِ، فَهُوَ قِسْمَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَظْهَرَ مِنَ الْآخَرِ، فَيَجِبُ الْحَمْلُ عَلَى الظَّاهِرِ إِلَّا أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْخَفِيُّ دُونَ الْجَلِيِّ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَا جَلِيَّيْنِ وَالِاسْتِعْمَالُ فِيهِمَا حَقِيقَةٌ. وَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَخْتَلِفَ أَصْلُ الْحَقِيقَةِ فِيهِمَا، فَيَدُورُ اللَّفْظُ بَيْنَ مَعْنَيَيْنِ؛ هُوَ فِي أَحَدِهِمَا حَقِيقَةٌ لُغَوِيَّةٌ، وَفِي الْآخَرِ حَقِيقَةٌ شَرْعِيَّةٌ، فَالشَّرْعِيَّةُ أَوْلَى إِلَّا أَنْ تَدُلَّ قَرِينَتُهُ عَلَى إِرَادَةِ اللُّغَوِيَّةِ، نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} (التَّوْبَةِ: 103) وَكَذَلِكَ إِذَا دَارَ بَيْنَ اللُّغَوِيَّةِ وَالْعُرْفِيَّةِ، فَالْعُرْفِيَّةُ أَوْلَى لِجَرَيَانِهَا عَلَى اللُّغَةِ، وَلَوْ دَارَ بَيْنَ الشَّرْعِيَّةِ وَالْعُرْفِيَّةِ، فَالشَّرْعِيَّةُ أَوْلَى لِأَنَّ الشَّرْعَ أَلْزَمُ. الضَّرْبُ الثَّانِي: لَا تَخْتَلِفُ أَصْلُ الْحَقِيقَةِ، بَلْ كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ اسْتُعْمِلَ فِيهِمَا، فِي اللُّغَةِ أَوْ فِي الشَّرْعِ أَوِ الْعُرْفِ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ. وَهَذَا أَيْضًا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَنَافَيَا اجْتِمَاعًا، وَلَا يُمْكِنَ إِرَادَتُهُمَا بِاللَّفْظِ الْوَاحِدِ، كَالْقُرْءِ؛ حَقِيقَةٌ فِي الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ، فَعَلَى الْمُجْتَهِدِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي الْمُرَادِ مِنْهُمَا بِالْأَمَارَاتِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ؛ فَإِذَا وَصَلَ إِلَيْهِ كَانَ هُوَ مُرَادَ اللَّهِ فِي حَقِّهِ، وَإِنِ اجْتَهَدَ مُجْتَهِدٌ آخَرُ فَأَدَّى اجْتِهَادُهُ إِلَى الْمَعْنَى الْآخَرِ كَانَ ذَلِكَ مُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى فِي حَقِّهِ؛ لِأَنَّهُ نَتِيجَةُ اجْتِهَادِهِ، وَمَا كُلِّفَ بِهِ، فَإِنْ لَمْ يَتَرَجَّحْ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ لِتَكَافُؤِ الْأَمَارَاتِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يُخَيَّرُ فِي الْحَمْلِ عَلَى أَيِّهِمَا شَاءَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَأْخُذُ بِأَعْظَمِهِمَا حُكْمًا، وَلَا يَبْعُدُ اطِّرَادُ وَجْهٍ ثَالِثٍ، وَهُوَ أَنْ يَأْخُذَ بِالْأَخَفِّ؛ كَاخْتِلَافِ جَوَابِ الْمُفْتِينَ. الضَّرْبُ الثَّانِي: أَلَّا يَتَنَافَيَا اجْتِمَاعًا، فَيَجِبُ الْحَمْلُ عَلَيْهِمَا عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ، وَيَكُونُ ذَلِكَ أَبْلَغُ فِي الْإِعْجَازِ وَالْفَصَاحَةِ، وَأَحْفَظُ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِ؛ إِلَّا أَنْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى إِرَادَةِ أَحَدِهِمَا. وَهَذَا أَيْضًا ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ دَلَالَتُهُ مُقْتَضِيَةً لِبُطْلَانِ الْمَعْنَى الْآخَرِ، فَيَتَعَيَّنُ الْمَدْلُولُ عَلَيْهِ لِلْإِرَادَةِ. الثَّانِي: أَلَّا يَقْتَضِيَ بُطْلَانَهُ، وَهَذَا اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَثْبُتُ حُكْمُ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ وَيَكُونُ مُرَادًا، وَلَا يُحْكَمُ بِسُقُوطِ الْمَعْنَى الْآخَرِ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا أَيْضًا، وَإِنْ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ مِنْ خَارِجٍ لِأَنَّ مُوجِبَ اللَّفْظِ عَلَيْهِمَا فَاسْتَوَيَا فِي حُكْمِهِ، وَإِنْ تَرَجَّحَ أَحَدُهُمَا بِدَلِيلٍ مِنْ خَارِجٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: مَا تَرَجَّحَ بِدَلِيلٍ مِنْ خَارِجٍ أَثْبَتُ حُكْمًا مِنَ الْآخَرِ؛ لِقُوَّتِهِ بِمُظَاهَرَةِ الدَّلِيلِ الْآخَرِ. فَهَذَا أَصْلٌ نَافِعٌ مُعْتَبَرٌ فِي وُجُوهِ التَّفْسِيرِ فِي اللَّفْظِ الْمُحْتَمِلِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. إِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ فَيَنْزِلُ قَوْلُهُ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (مَنْ تَكَلَّمَ فِي الْقُرْآنِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ) عَلَى قِسْمَيْنِ مِنْ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ: أَحَدُهُمَا: تَفْسِيرُ اللَّفْظِ لِاحْتِيَاجِ الْمُفَسِّرِ لَهُ إِلَى التَّبَحُّرِ فِي مَعْرِفَةِ لِسَانِ الْعَرَبِ. الثَّانِي: حَمْلُ اللَّفْظِ الْمُحْتَمِلِ عَلَى أَحَدِ مَعْنَيَيْهِ لِاحْتِيَاجِ ذَلِكَ إِلَى مَعْرِفَةِ أَنْوَاعٍ مِنَ الْعُلُومِ: عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ وَاللُّغَةِ وَالتَّبَحُّرِ فِيهِمَا، وَمِنْ عِلْمِ الْأُصُولِ مَا يُدْرَكُ بِهِ حُدُودُ الْأَشْيَاءِ، وَصِيَغُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْخَبَرِ، وَالْمُجْمَلُ وَالْمُبَيَّنُ، وَالْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ، وَالظَّاهِرُ وَالْمُضْمَرُ، وَالْمُحْكَمُ وَالْمُتَشَابِهُ وَالْمُؤَوَّلُ، وَالْحَقِيقَةُ وَالْمَجَازُ، وَالصَّرِيحُ وَالْكِنَايَةُ، وَالْمُطْلَقُ وَالْمُقَيَّدُ، وَمِنْ عُلُومِ الْفُرُوعِ مَا يُدْرَكُ بِهِ اسْتِنْبَاطًا، وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى هَذَا أَقَلُّ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ. وَمَعَ ذَلِكَ فَهُوَ عَلَى خَطَرٍ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَقُولَ: يَحْتَمِلُ كَذَا وَلَا يَجْزِمُ إِلَّا فِي حُكْمٍ اضْطُرَّ إِلَى الْفَتْوَى بِهِ، فَأَدَّى اجْتِهَادُهُ إِلَيْهِ، فَيَحْرُمُ خِلَافُهُ مَعَ تَجْوِيزِ خِلَافِهِ عِنْدَ اللَّهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: مَا نَزَلْ مِنَ الْقُرْآنِ مِنْ آيَةٍ إِلَّا وَلَهَا ظَهْرٌ وَبَطْنٌ، وَلِكُلِّ حَرْفٍ حَدٌّ، وَلِكُلِّ حَدٍّ مَطْلَعٌ ، فَمَا مَعْنَى ذَلِكَ؟ قُلْتُ: أَمَّا قَوْلُهُ: " ظَهْرٌ وَبَطْنٌ " فَفِي تَأْوِيلِهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا- وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ- إِنَّكَ إِذَا بَحَثْتَ عَنْ بَاطِنِهَا وَقِسْتَهُ عَلَى ظَاهِرِهَا وَقَفْتَ عَلَى مَعْنَاهَا. وَالثَّانِي:- قَوْلُ أَبِي عُبَيْدٍ- إِنَّ الْقَصَصَ ظَاهِرَهَا الْإِخْبَارُ بِهَلَاكِ الْأَوَّلِينَ، وَبَاطِنُهَا عِظَةٌ لِلْآخَرِينَ. الثَّالِثُ:- قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- إِنَّهُ مَا مِنْ آيَةٍ إِلَّا عَمِلَ بِهَا قَوْمٌ، وَلَهَا قَوْمٌ سَيَعْمَلُونَ بِهَا. الرَّابِعُ:- قَالَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ- إِنَّ ظَاهِرَهَا لَفْظُهَا، وَبَاطِنَهَا تَأْوِيلُهَا. وَقَوْلُ أَبِي عُبَيْدٍ أَقْرَبُهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: " وَلِكُلِّ حَرْفٍ حَدٌّ " فَفِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: لِكُلِّ حَرْفٍ مُنْتَهًى فِيمَا أَرَادَ اللَّهُ مِنْ مَعْنَاهُ. الثَّانِي: مَعْنَاهُ أَنَّ لِكُلِّ حُكْمٍ مِقْدَارًا مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلِكُلِّ حَدٍّ مَطْلَعٌ، فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لِكُلِّ غَامِضٍ مِنَ الْمَعَانِي وَالْأَحْكَامِ مَطْلَعٌ يُتَوَصَّلُ إِلَى مَعْرِفَتِهِ، وَيُوقَفُ عَلَى الْمُرَادِ بِهِ. وَالثَّانِي: لِكُلِّ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ مُطْلَعٌ يُطَّلَعُ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ، وَيَرَاهُ عِنْدَ الْمُجَازَاةِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مِنْهُ مَا لَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ، وَذَلِكَ آجَالٌ حَادِثَةٌ فِي أَوْقَاتٍ آتِيَةٍ، كَوَقْتِ قِيَامِ السَّاعَةِ، وَالنَّفْخِ فِي الصُّورِ، وَنُزُولِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. لِقَوْلِهِ: {لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (الْأَعْرَافِ: 187) وَمِنْهُ مَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ كُلُّ ذِي عِلْمٍ بِاللِّسَانِ الَّذِي نَزَلَ بِهِ الْقُرْآنُ، وَذَلِكَ إِبَانَةُ غَرَائِبِهِ، وَمَعْرِفَةُ الْمُسَمَّيَاتِ بِأَسْمَائِهَا اللَّازِمَةِ غَيْرِ الْمُشْتَرَكَةِ مِنْهَا، أَوِ الْمَوْصُوفَاتِ بِصِفَاتِهَا الْخَاصَّةِ دُونَ مَا سِوَاهَا، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَجْهَلُهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ، وَذَلِكَ كَسَامِعٍ مِنْهُمْ لَوْ سَمِعَ تَالِيًا يَتْلُو: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ} (الْبَقَرَةِ: 11 وَ 12) لَمْ يَجْهَلْ أَنَّ مَعْنَى الْفَسَادِ هُوَ مَا يَنْبَغِي تَرْكُهُ مِمَّا هُوَ مَضَرَّةٌ، وَأَنَّ الصَّلَاحَ مِمَّا يَنْبَغِي فِعْلُهُ مِمَّا هُوَ مَنْفَعَةٌ، وَإِنْ جَهِلَ الْمَعَانِيَ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ إِفْسَادًا وَالْمَعَانِيَ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ إِصْلَاحًا. فَأَمَّا تَعْلِيمُ التَّفْسِيرِ وَنَقْلُهُ عَمَّنْ قَوْلُهُ حُجَّةٌ فَفِيهِ ثَوَابٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ، كَتَعْلِيمِ الْأَحْكَامِ مِنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ.
فَأَمَّا كَلَامُ الصُّوفِيَّةِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ، فَقِيلَ لَيْسَ تَفْسِيرًا، وَإِنَّمَا هِيَ مَعَانٍ وَمَوَاجِيدُ يَجِدُونَهَا عِنْدَ التِّلَاوَةِ، كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ فِي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} (التَّوْبَةِ: 123) إِنَّ الْمُرَادَ النَّفْسُ، فَأَمَرَنَا بِقِتَالِ مَنْ يَلِينَا، لِأَنَّهَا أَقْرَبُ شَيْءٍ إِلَيْنَا، وَأَقْرَبُ شَيْءٍ إِلَى الْإِنْسَانِ نَفْسُهُ. قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ فِي " فَتَاوِيهِ ": وَقَدْ وَجَدْتُ عَنِ الْإِمَامِ أَبِي الْحَسَنِ الْوَاحِدِيِّ أَنَّهُ صَنَّفَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ " حَقَائِقَ التَّفْسِيرِ " فَإِنْ كَانَ اعْتَقَدَ أَنَّ ذَلِكَ تَفْسِيرٌ فَقَدْ كَفَرَ. قَالَ: وَأَنَا أَقُولُ: الظَّنُّ بِمَنْ يُوثَقُ بِهِ مِنْهُمْ إِذَا قَالَ شَيْئًا مِنْ أَمْثَالِ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْهُ تَفْسِيرًا، وَلَا ذَهَبَ بِهِ مَذْهَبَ الشَّرْحِ لِلْكَلِمَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ كَانُوا قَدْ سَلَكُوا مَسْلَكَ الْبَاطِنِيَّةِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ مِنْهُمْ ذِكْرٌ لِنَظِيرِ مَا وَرَدَ بِهِ الْقُرْآنُ، فَإِنَّ النَّظِيرَ يُذْكَرُ بِالنَّظِيرِ، فَمِنْ ذَلِكَ مِثَالُ النَّفْسِ فِي الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَمَرَنَا بِقِتَالِ النَّفْسِ، وَمَنْ يَلِينَا مِنَ الْكُفَّارِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَيَا لَيْتَهُمْ لَمْ يَتَسَاهَلُوا فِي مِثْلِ ذَلِكَ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِبْهَامِ وَالِالْتِبَاسِ. انْتَهَى.
حَكَى الشَّيْخُ أَبُو حَيَّانَ عَنْ بَعْضِ مَنْ عَاصَرَهُ أَنَّ طَالِبَ عِلْمِ التَّفْسِيرِ مُضْطَرٌّ إِلَى النَّقْلِ فِي فَهْمِ مَعَانِي تَرْكِيبِهِ، بِالْإِسْنَادِ إِلَى مُجَاهِدٍ وَطَاوُسٍ وَعِكْرِمَةَ وَأَضْرَابِهِمْ، وَأَنَّ فَهْمَ الْآيَاتِ يَتَوَقَّفُ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ بَالَغَ الشَّيْخُ فِي رَدِّهِ لِأَثَرِ عَلِيٍّ السَّابِقِ. وَالْحَقُّ أَنَّ عِلْمَ التَّفْسِيرِ، مِنْهُ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَى النَّقْلِ، كَسَبَبِ النُّزُولِ، وَالنَّسْخِ، وَتَعْيِينِ الْمُبْهَمِ، وَتَبْيِينِ الْمُجْمَلِ. وَمِنْهُ مَا لَا يَتَوَقَّفُ، وَيَكْفِي فِي تَحْصِيلِهِ التَّفَقُّهُ عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَبَرِ. وَكَأَنَّ السَّبَبَ فِي اصْطِلَاحِ بَعْضِهِمْ عَلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ التَّفْسِيرِ وَالتَّأْوِيلِ التَّمْيِيزُ بَيْنَ الْمَنْقُولِ وَالْمُسْتَنْبَطِ، لِيُحْمَلَ عَلَى الِاعْتِمَادِ فِي الْمَنْقُولِ، وَعَلَى النَّظَرِ فِي الْمُسْتَنْبَطِ، تَجْوِيزًا لَهُ وَازْدِيَادًا، وَهَذَا مِنَ الْفُرُوعِ فِي الدِّينِ. تَنْخِيلٌ لِمَا سَبَقَ وَاعْلَمْ أَنَّ الْقُرْآنَ قِسْمَانِ: أَحَدُهُمَا وَرَدَ تَفْسِيرُهُ بِالنَّقْلِ عَمَّنْ يُعْتَبَرُ تَفْسِيرُهُ، وَقِسْمٌ لَمْ يَرِدْ. وَالْأَوَّلُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: إِمَّا أَنْ يَرِدَ التَّفْسِيرُ عَنِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَوْ عَنِ الصَّحَابَةِ أَوْ عَنْ رُؤُوسِ التَّابِعِينَ؛ فَالْأَوَّلُ يُبْحَثُ فِيهِ عَنْ صِحَّةِ السَّنَدِ، وَالثَّانِي يَنْظُرُ فِي تَفْسِيرِ الصَّحَابِيِّ، فَإِنْ فَسَّرَهُ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةِ فَهُمْ أَهْلُ اللِّسَانِ فَلَا شَكَّ فِي اعْتِمَادِهِمْ، وَإِنْ فَسَّرَهُ بِمَا شَاهَدَهُ مِنَ الْأَسْبَابِ وَالْقَرَائِنِ فَلَا شَكَّ فِيهِ؛ وَحِينَئِذٍ إِنْ تَعَارَضَتْ أَقْوَالُ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، فَإِنْ أَمْكَنَ الْجَمْعُ فَذَاكَ، وَإِنْ تَعَذَّرَ قُدِّمَ ابْنُ عَبَّاسٍ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَشَّرَهُ بِذَلِكَ حَيْثُ قَالَ: اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ، وَقَدْ رَجَّحَ الشَّافِعِيُّ قَوْلَ زَيْدٍ فِي الْفَرَائِضِ، لِقَوْلِهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَفْرَضُكُمْ زَيْدٌ. فَإِنْ تَعَذَّرَ الْجَمْعُ جَازَ لِلْمُقَلِّدِ أَنْ يَأْخُذَ بِأَيِّهَا شَاءَ، وَأَمَّا الثَّالِثُ وَهُمْ رُؤُوسُ التَّابِعِينَ إِذَا لَمْ يَرْفَعُوهُ إِلَى النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلَا إِلَى أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- فَحَيْثُ جَازَ التَّقْلِيدُ فِيمَا سَبَقَ، فَكَذَا هُنَا، وَإِلَّا وَجَبَ الِاجْتِهَادُ. الثَّانِي: مَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ نَقْلٌ عَنِ الْمُفَسِّرِينَ، وَهُوَ قَلِيلٌ، وَطَرِيقُ التَّوَصُّلِ إِلَى فَهْمِهِ النَّظَرُ إِلَى مُفْرَدَاتِ الْأَلْفَاظِ مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ وَمَدْلُولَاتِهَا وَاسْتِعْمَالِهَا بِحَسَبِ السِّيَاقِ، وَهَذَا يَعْتَنِي بِهِ الرَّاغِبُ كَثِيرًا فِي كِتَابِ " الْمُفْرَدَاتِ " فَيَذْكُرُ قَيْدًا زَائِدًا عَلَى أَهْلِ اللُّغَةِ فِي تَفْسِيرِ مَدْلُولِ اللَّفْظِ؛ لِأَنَّهُ اقْتَنَصَهُ مِنَ السِّيَاقِ.
الَّذِي يَجِبُ عَلَى الْمُفَسِّرِ الْبَدَاءَةُ بِهِ الْعُلُومُ اللَّفْظِيَّةُ، وَأَوَّلُ مَا يَجِبُ الْبَدَاءَةُ بِهِ مِنْهَا، تَحْقِيقُ الْأَلْفَاظِ الْمُفْرَدَةِ، فَتَحْصِيلُ مَعَانِي الْمُفْرَدَاتِ مِنْ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ مَنْ أَوَائِلِ الْمَعَادِنِ لِمَنْ يُرِيدُ أَنْ يُدْرِكَ مَعَانِيَهُ؛ وَهُوَ كَتَحْصِيلِ اللَّبِنِ مِنْ أَوَائِلِ الْمَعَادِنِ فِي بِنَاءِ مَا يُرِيدُ أَنْ يَبْنِيَهُ. قَالُوا: وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي عِلْمِ الْقُرْآنِ فَقَطْ؛ بَلْ هُوَ نَافِعٌ فِي كُلِّ عِلْمٍ مِنْ عُلُومِ الشَّرْعِ وَغَيْرِهِ وَهُوَ كَمَا قَالُوا: إِنَّ الْمُرَكَّبَ لَا يُعْلَمُ إِلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِمُفْرَدَاتِهِ؛ لِأَنَّ الْجُزْءَ سَابِقٌ عَلَى الْكُلِّ فِي الْوُجُودِ مِنَ الذِّهْنِيِّ وَالْخَارِجِيِّ، فَنَقُولُ: النَّظَرُ فِي التَّفْسِيرِ هُوَ بِحَسَبِ أَفْرَادِ الْأَلْفَاظِ وَتَرَاكِيبِهَا. وَأَمَّا بِحَسَبِ الْأَفْرَادِ فَمِنْ وُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ: مِنْ جِهَةِ الْمَعَانِي الَّتِي وُضِعَتِ الْأَلْفَاظُ الْمُفْرَدَةُ بِإِزَائِهَا، وَهُوَ يَتَعَلَّقُ بِعِلْمِ اللُّغَةِ. وَمِنْ جِهَةِ الْهَيْئَاتِ وَالصِّيَغِ الْوَارِدَةِ عَلَى الْمُفْرَدَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمَعَانِي الْمُخْتَلِفَةِ، وَهُوَ مِنْ عِلْمِ التَّصْرِيفِ. وَمِنْ جِهَةِ رَدِّ الْفُرُوعِ الْمَأْخُوذَةِ مِنَ الْأُصُولِ إِلَيْهَا، وَهُوَ مِنْ عِلْمِ الِاشْتِقَاقِ. وَأَمَّا بِحَسَبِ التَّرْكِيبِ فَمِنْ وُجُوهٍ أَرْبَعَةٍ: الْأَوَّلُ: بِاعْتِبَارِ كَيْفِيَّةِ التَّرَاكِيبِ بِحَسَبِ الْإِعْرَابِ وَمُقَابِلِهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا مُؤَدِّيَةٌ أَصْلَ الْمَعْنَى، وَهُوَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْمُرَكَّبُ بِحَسَبِ الْوَضْعِ، وَذَلِكَ مُتَعَلِّقٌ بِعِلْمِ النَّحْوِ. الثَّانِي: بِاعْتِبَارِ كَيْفِيَّةِ التَّرْكِيبِ مِنْ جِهَةِ إِفَادَتِهِ مَعْنَى الْمَعْنَى؛ أَعْنِي لَازِمُ أَصْلِ الْمَعْنَى الَّذِي يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مُقْتَضَى الْحَالِ فِي تَرَاكِيبَ الْبُلَغَاءِ، وَهُوَ الَّذِي يَتَكَلَّفُ بِإِبْرَازِ مَحَاسِنِهِ عِلْمُ الْمَعَانِي. الثَّالِثُ: بِاعْتِبَارِ طُرُقِ تَأْدِيَةِ الْمَقْصُودِ بِحَسَبِ وُضُوحِ الدَّلَالَةِ وَحَقَائِقِهَا وَمَرَاتِبِهَا، وَبِاعْتِبَارِ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، وَالِاسْتِعَارَةِ وَالْكِنَايَةِ وَالتَّشْبِيهِ؛ وَهُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِعِلْمِ الْبَيَانِ. وَالرَّابِعُ: بِاعْتِبَارِ الْفَصَاحَةِ اللَّفْظِيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ وَالِاسْتِحْسَانِ وَمُقَابِلِهِ، وَهُوَ يَتَعَلَّقُ بِعِلْمِ الْبَدِيعِ.
وَقَدْ سَبَقَ لَنَا فِي بَابِ الْإِعْجَازِ أَنَّ إِعْجَازَ الْقُرْآنِ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى تَفَرُّدِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي يَتَرَكَّبُ مِنْهَا الْكَلَامُ، مَعَ مَا تَضْمَنُهُ مِنَ الْمَعَانِي، مَعَ مُلَاءَمَتِهِ الَّتِي هِيَ نُظُومُ تَأْلِيفِهِ. فَأَمَّا الْأَوَّلُ: وَهُوَ مَعْرِفَةُ الْأَلْفَاظِ، فَهُوَ أَمْرٌ نَقْلِيٌّ يُؤْخَذُ عَنْ أَرْبَابِ التَّفْسِيرِ، وَلِهَذَا كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يَقْرَأُ قَوْلَهُ تَعَالَى: {فَاكِهَةً وَأَبًّا} (عَبَسَ: 31) فَلَا يَعْرِفُهُ، فَيُرَاجِعُ نَفْسَهُ وَيَقُولُ: مَا الْأَبُّ؟ وَيَقُولُ: إِنَّ هَذَا مِنْكَ تَكَلُّفٌ. وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ- وَهُوَ تُرْجُمَانُ الْقُرْآنِ- يَقُولُ: لَا أَعْرِفُ {حَنَانًا} (مَرْيَمَ: 13)، وَلَا {غِسْلِينٍ} (الْحَاقَّةِ: 36)، وَلَا {الرَّقِيمِ} (الْكَهْفِ: 9). وَأَمَّا الْمَعَانِي الَّتِي تَحْتَمِلُهَا الْأَلْفَاظُ، فَالْأَمْرُ فِي مُعَانَاتِهَا أَشَدُّ؛ لِأَنَّهَا نَتَائِجُ الْعُقُولِ. وَأَمَّا رُسُومُ النَّظْمِ فَالْحَاجَةُ إِلَى الثَّقَافَةِ وَالْحِذْقِ فِيهَا أَكْثَرُ؛ لِأَنَّهَا لِجَامُ الْأَلْفَاظِ وَزِمَامُ الْمَعَانِي، وَبِهِ يَتَّصِلُ أَجْزَاءُ الْكَلَامِ، وَيَتَّسِمُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، فَتَقُومُ لَهُ صُورَةٌ فِي النَّفْسِ يَتَشَكَّلُ بِهَا الْبَيَانُ، فَلَيْسَ الْمُفْرِدُ بِذَرَبِ اللِّسَانِ وَطَلَاقَتِهِ كَافِيًا لِهَذَا الشَّأْنِ، وَلَا كُلُّ مَنْ أُوتِيَ خِطَابَ بَدِيهَةٍ نَاهِضًا بِحَمْلِهِ مَا لَمْ يَجْمَعْ إِلَيْهَا سَائِرَ الشُّرُوطِ.
قِيلَ: أَحْسَنُ طَرِيقِ التَّفْسِيرِ أَنْ يُفَسَّرَ الْقُرْآنُ بِالْقُرْآنِ، فَمَا أُجْمِلَ فِي مَكَانٍ فَقَدْ فُصِّلَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَمَا اخْتُصِرَ فِي مَكَانٍ فَإِنَّهُ قَدْ بُسِطَ فِي آخَرَ. فَإِنْ أَعْيَاكَ ذَلِكَ فَعَلَيْكَ بِالسُّنَّةِ، فَإِنَّهَا شَارِحَةٌ لِلْقُرْآنِ، وَمُوَضِّحَةٌ لَهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (النَّحْلِ: 64) وَلِهَذَا قَالَ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْقُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ. يَعْنِي السُّنَّةَ؛ فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فِي السُّنَّةِ يُرْجَعْ إِلَى أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ، فَإِنَّهُمْ أَدْرَى بِذَلِكَ، لِمَا شَاهَدُوهُ مِنَ الْقَرَائِنِ، وَلِمَا أَعْطَاهُمُ اللَّهُ مِنَ الْفَهْمِ الْعَجِيبِ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ يُرْجَعْ إِلَى النَّظَرِ وَالِاسْتِنْبَاطِ بِالشَّرْطِ السَّابِقِ.
وَيَجِبُ أَنْ يُتَحَرَّى فِي التَّفْسِيرِ مَا يَجِبُ عَلَى الْمُفَسِّرِ مُطَابَقَةُ الْمُفَسَّرِ، وَأَنْ يُتَحَرَّزَ فِي ذَلِكَ مِنْ نَقْصِ الْمُفَسِّرِ عَمَّا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ إِيضَاحِ الْمَعْنَى الْمُفَسَّرِ، أَوْ أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى زِيَادَةٌ لَا تَلِيقُ بِالْغَرَضِ، أَوْ أَنْ يَكُونَ فِي الْمُفَسِّرِ زَيْغٌ عَنِ الْمَعْنَى الْمُفَسَّرِ، وَعُدُولٌ عَنْ طَرِيقِهِ، حَتَّى يَكُونَ غَيْرَ مُنَاسِبٍ لَهُ وَلَوْ مِنْ بَعْضِ أَنْحَائِهِ، بَلْ يَجْتَهِدُ فِي أَنْ يَكُونَ وَفْقَهُ مِنْ جَمِيعِ الْأَنْحَاءِ، وَعَلَيْهِ بِمُرَاعَاةِ الْوَضْعِ الْحَقِيقِيِّ وَالْمَجَازِيِّ، وَمُرَاعَاةِ التَّأْلِيفِ، وَأَنْ يُوَافِيَ بَيْنَ الْمُفْرَدَاتِ، وَتَلْمِيحِ الْوَقَائِعِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ تَتَفَجَّرُ لَهُ يَنَابِيعُ الْفَوَائِدِ. وَمِنْ شَوَاهِدِ الْإِعْرَابِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} (الْبَقَرَةِ: 37) وَلَوْلَا الْإِعْرَابُ لَمَا عُرِفَ الْفَاعِلُ مِنَ الْمَفْعُولِ بِهِ. وَمِنْ شَوَاهِدِ النَّظْمِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} (الطَّلَاقِ: 4) فَإِنَّهَا مُنْتَظِمَةٌ مَعَ مَا قَبْلَهَا مُنْقَطِعَةٌ عَمَّا بَعْدَهَا. وَقَدْ يَظْهَرُ الِارْتِبَاطُ، وَقَدْ يُشْكَلُ أَمْرُهُ؛ فَمِنَ الظَّاهِرِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} (يُونُسَ: 34) وَوَجْهُ ظُهُورِهِ، أَنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يَكُونَ السُّؤَالُ وَالْجَوَابُ مِنْ وَاحِدٍ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: {قُلِ اللَّهُ} جَوَابَ سُؤَالٍ؛ كَأَنَّهُمْ لَمَّا سَأَلُوا، سَمِعُوا مَا قَبْلَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَهُوَ: {مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} أَجَابَهُمْ بِقَوْلِهِ: {قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ}، فَتَرَكَ ذِكْرَ السُّؤَالِ. وَنَظِيرُهُ: {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ} (يُونُسَ: 35).
فِي النَّهْيِ عَنْ ذِكْرِ لَفْظِ الْحِكَايَةِ عَنِ اللَّهِ- تَعَالَى، حُكْمُهُ وَوُجُوبِ تَجَنُّبِ إِطْلَاقِ الزَّائِدِ عَلَى بَعْضِ الْحُرُوفِ الْوَارِدَةِ فِي الْقُرْآنِ. وَكَثِيرًا مَا يَقَعُ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ " حَكَى اللَّهُ- تَعَالَى " وَهَذَا يَنْبَغِي تَجَنُّبُهُ. قَالَ الْإِمَامُ أَبُو نَصْرٍ الْقُشَيْرِيُّ فِي كِتَابِهِ " الْمُرْشِدِ ": قَالَ مُعْظَمُ أَئِمَّتِنَا: لَا يُقَالُ: " كَلَامُ اللَّهِ يُحْكَى "، وَلَا يُقَالُ: " حَكَى اللَّهُ " لِأَنَّ الْحِكَايَةَ الْإِتْيَانُ بِمِثْلِ الشَّيْءِ، وَلَيْسَ بِكَلَامِهِ مِثْلٌ. وَتَسَاهَلَ قَوْمٌ، فَأَطْلَقُوا لَفْظَ الْحِكَايَةِ بِمَعْنَى الْإِخْبَارِ، وَكَثِيرًا مَا يَقَعُ فِي كَلَامِهِمْ إِطْلَاقُ الزَّائِدِ عَلَى بَعْضِ الْحُرُوفِ، كَـ " مَا " فِي نَحْوِ: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ} (آلِ عِمْرَانَ: 159) وَالْكَافُ فِي نَحْوِ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (الشُّورَى: 11) وَنَحْوِهِ. وَالَّذِي عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ تَجَنُّبُ هَذَا اللَّفْظِ فِي الْقُرْآنِ، إِذِ الزَّائِدُ مَا لَا مَعْنَى لَهُ. وَكَلَامُ اللَّهِ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ. وَمِمَّنْ نَصَّ عَلَى مَنْعِ ذَلِكَ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ الْإِمَامُ دَاوُدُ الظَّاهِرِيُّ، فَذَكَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الدَّاوُدِيُّ فِي الْكِتَابِ " الْمُرْشِدِ " لَهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ عَلَى مَذْهَبِ دَاوُدَ الظَّاهِرِيِّ. وَرَوَى بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ صِلَةٌ بِوَجْهٍ. وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا مِثْلَ ذَلِكَ، وَالَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ النَّحْوِيِّينَ خِلَافُ هَذَا، ثُمَّ حَكَى عَنْ أَبِي دَاوُدَ مِثْلَهُ، يَزْعُمُ الصِّلَةَ فِيهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَثَلًا مَا بَعُوضَةً} (الْبَقَرَةِ: 26) وَقَالَ: إِنَّ " مَا " هَاهُنَا لِلتَّعْلِيلِ، مِثْلُ: أَحْبِبْ حَبِيبَكَ هَوْنًا مَا.
التَّأْوِيلُ يَنْقَسِمُ إِلَى مُنْقَادٍ وَمُسْتَكْرَهٍ: فَالْأَوَّلُ: مَا لَا تَعْرِضُ فِيهِ بَشَاعَةٌ أَوِ اسْتِقْبَاحٌ، وَقَدْ يَقَعُ فِيهِ الْخِلَافُ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ: إِمَّا لِاشْتِرَاكٍ فِي اللَّفْظِ، نَحْوُ: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} (الْأَنْعَامِ: 103) هَلْ هُوَ مِنْ بَصَرِ الْعَيْنِ أَوِ الْقَلْبِ؟ وَإِمَّا لِأَمْرٍ رَاجِعٍ إِلَى النَّظْمِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} (النُّورِ: 5) هَلْ هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ مَقْصُورٌ عَلَى الْمَعْطُوفِ وَحْدَهُ أَوْ عَائِدٌ إِلَى الْجَمِيعِ؟ وَإِمَّا لِغُمُوضِ الْمَعْنَى وَوَجَازَةِ النَّظْمِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (الْبَقَرَةِ: 227). وَإِمَّا لِغَيْرِ ذَلِكَ. وَأَمَّا الْمُسْتَكْرَهُ: فَمَا يُسْتَبْشَعُ إِذَا عُرِضَ عَلَى الْحُجَّةِ، وَذَلِكَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ أَنْ يَكُونَ لَفْظًا عَامًّا فَيَخْتَصُّ بِبَعْضِ مَا يَدْخُلُ تَحْتَهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} (التَّحْرِيمِ: 4) فَحَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى عَلِيٍّ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فَقَطْ. وَالثَّانِي: أَنْ يُلَفَّقَ بَيْنَ اثْنَيْنِ؛ كَقَوْلِ مَنْ زَعَمَ تَكْلِيفَ الْحَيَوَانَاتِ فِي قَوْلِهِ: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} (فَاطِرٍ: 24) مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} (الْأَنْعَامِ: 38) إِنَّهُمْ مُكَلَّفُونَ كَمَا نَحْنُ. وَالثَّالِثُ: مَا اسْتُعِيرَ فِيهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} (الْقَلَمِ: 42) فِي حَمْلِهِ عَلَى حَقِيقَتِهِ. الرَّابِعُ: مَا أُشْعِرَ بِهِ بِاشْتِقَاقٍ بَعِيدٍ، كَمَا قَالَ بَعْضُ الْبَاطِنِيَّةِ فِي الْبَقَرَةِ: إِنَّهُ إِنْسَانٌ يَبْقُرُ عَنْ أَسْرَارِ الْعُلُومِ، وَفِي الْهُدْهُدِ إِنَّهُ إِنْسَانٌ مَوْصُوفٌ بِجَوْدَةِ الْبَحْثِ وَالتَّنْقِيبِ. وَالْأَوَّلُ أَكْثَرُ مَا يَرُوجُ عَلَى الْمُتَفَقِّهَةِ الَّذِينَ لَمْ يَتَبَحَّرُوا فِي مَعْرِفَةِ الْأُصُولِ، وَالثَّانِي عَلَى الْمُتَكَلِّمِ الْقَاصِرِ فِي مَعْرِفَةِ شَرَائِطِ النَّظْمِ، وَالثَّالِثُ عَلَى صَاحِبِ الْحَدِيثِ الَّذِي لَمْ يَتَهَذَّبْ فِي شَرَائِطِ قَبُولِ الْأَخْبَارِ، وَالرَّابِعُ عَلَى الْأَدِيبِ الَّذِي لَمْ يَتَهَذَّبْ بِشَرَائِطِ الِاسْتِعَارَاتِ وَالِاشْتِقَاقَاتِ.
رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ} مِنْ تَفْسِيرِ ابْنِ عَبَّاسٍ (الْإِسْرَاءِ: 51) فَقَالَ: الْمَوْتُ. قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَهُوَ تَفْسِيرٌ يَحْتَاجُ لِتَفْسِيرٍ. وَرَأَيْتُ لِبَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ مُرَادَ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمَوْتَ سَيَفْنَى كَمَا يَفْنَى كُلُّ شَيْءٍ، كَمَا جَاءَ أَنَّهُ يُذْبَحُ عَلَى الصِّرَاطِ، فَكَأَنَّ الْمَعْنَى: لَوْ كُنْتُمْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا لَبَادَرَ إِلَيْكُمُ الْمَوْتُ، وَلَوْ كُنْتُمُ الْمَوْتَ الَّذِي يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَلَا بُدَّ لَكُمْ مِنَ الْمَوْتِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِتَأْوِيلِ ذَلِكَ. قَالَ: وَبَقِيَ فِي نَفْسِي مِنْ تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ شَيْءٌ حَتَّى يُكْمِلَ اللَّهُ نِعْمَتَهُ فِي فَهْمِهَا.
أَصِلُ الْوُقُوفَ عَلَى مَعَانِي الْقُرْآنِ التَّدَبُّرُ وَالتَّفَكُّرُ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ لِلنَّاظِرِ فَهْمُ مَعَانِي الْوَحْيِ حَقِيقَةً، وَلَا يَظْهَرُ لَهُ أَسْرَارُ الْعِلْمِ مِنْ غَيْبِ الْمَعْرِفَةِ، وَفِي قَلْبِهِ بِدْعَةٌ أَوْ إِصْرَارٌ عَلَى ذَنْبٍ، أَوْ فِي قَلْبِهِ كِبْرٌ أَوْ هَوًى، أَوْ حُبُّ الدُّنْيَا، أَوْ يَكُونُ غَيْرَ مُتَحَقِّقِ الْإِيمَانِ، أَوْ ضَعِيفَ التَّحْقِيقِ، أَوْ مُعْتَمِدًا عَلَى قَوْلِ مُفَسِّرٍ لَيْسَ عِنْدَهُ إِلَّا عِلْمٌ بِظَاهِرٍ، أَوْ يَكُونُ رَاجِعًا إِلَى مَعْقُولِهِ؛ وَهَذِهِ كُلُّهَا حُجُبٌ وَمَوَانِعُ، وَبَعْضُهَا آكَدُ مِنْ بَعْضٍ؛ بَلْ إِذَا كَانَ الْعَبْدُ مُصْغِيًا إِلَى كَلَامِ رَبِّهِ مُلْقِيَ السَّمْعِ وَهُوَ شَهِيدُ الْقَلْبِ لِمَعَانِي صِفَاتِ مُخَاطِبِهِ، نَاظِرًا إِلَى قُدْرَتِهِ، تَارِكًا لِلْمَعْهُودِ مِنْ عِلْمِهِ وَمَعْقُولِهِ، مُتَبَرِّئًا مِنْ حَوْلِهِ وَقَوَّتِهِ، مُعَظِّمًا لِلْمُتَكَلِّمِ، مُفْتَقِرًا إِلَى التَّفَهُّمِ، بِحَالٍ مُسْتَقِيمٍ، وَقَلْبٍ سَلِيمٍ، وَقُوَّةِ عِلْمٍ، وَتَمَكُّنِ سَمْعٍ لِفَهْمِ الْخِطَابِ، وَشَهَادَةِ غَيْبِ الْجَوَابِ، بِدُعَاءٍ وَتَضَرُّعٍ، وَابْتِئَاسٍ وَتَمَسْكُنٍ، وَانْتِظَارٍ لِلْفَتْحِ عَلَيْهِ مِنْ عِنْدِ الْفَتَّاحِ الْعَلِيمِ. وَلْيَسْتَعِنْ عَلَى ذَلِكَ بِأَنْ تَكُونَ تِلَاوَتُهُ عَلَى مَعَانِي الْكَلَامِ، وَشَهَادَةِ وَصْفِ الْمُتَكَلِّمِ؛ مِنَ الْوَعْدِ بِالتَّشْوِيقِ، وَالْوَعِيدِ بِالتَّخْوِيفِ، وَالْإِنْذَارِ بِالتَّشْدِيدِ، فَهَذَا الْقَارِئُ أَحْسَنُ النَّاسِ صَوْتًا بِالْقُرْآنِ؛ وَفِي مِثْلِ هَذَا قَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} (الْبَقَرَةِ: 121). وَهَذَا هُوَ الرَّاسِخُ فِي الْعِلْمِ؛ جَعَلْنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ مِنْ هَذَا الصِّنْفِ: {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} (الْأَحْزَابِ: 4).
وَفِي الْقُرْآنِ عِلْمُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، وَمَا مِنْ شَيْءٍ إِلَّا وَيُمْكِنُ اسْتِخْرَاجُهُ مِنْهُ لِمَنْ فَهَّمَهُ اللَّهُ- تَعَالَى، حَتَّى إِنَّ بَعْضَهُمُ اسْتَنْبَطَ عُمُرَ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثَلَاثًا وَسِتِّينَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمُنَافِقِينَ: {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا} (الْآيَةِ: 11) فَإِنَّهَا رَأْسُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ سُورَةً، وَعَقَّبَهَا بِالتَّغَابُنِ لِيُظْهِرَ التَّغَابُنَ فِي فَقْدِهِ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ عِيسَى: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ} (مَرْيَمَ: 30) إِلَى قَوْلِهِ: {أُبْعَثُ حَيًّا} (مَرْيَمَ: 33) ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ كَلِمَةً، وَعُمُرُهُ ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً. وَقَدِ اسْتَنْبَطَ النَّاسُ زَلْزَلَةَ عَامِ اثْنَيْنِ وَسَبْعِمِائَةٍ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ} (الزَّلْزَلَةِ: 1) فَإِنَّ الْأَلْفَ بِاثْنَيْنِ وَالذَّالَ بِسَبْعِمِائَةٍ. وَكَذَلِكَ اسْتَنْبَطَ بَعْضُ أَئِمَّةِ الْعَرَبِ فَتْحَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَتَخْلِيصَهُ مِنْ أَيْدِي الْعَدُوِّ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الرُّومِ بِحِسَابِ الْجُمَلِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَقَدْ يُسْتَنْبَطُ الْحُكْمُ مِنَ السُّكُوتِ عَنِ الشَّيْءِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} (النُّورِ: 31) الْآيَةَ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْأَعْمَامَ وَالْأَخْوَالَ، وَهُمْ مِنَ الْمَحَارِمِ، وَحُكْمُهُمْ حُكْمُ مَنْ سُمِّيَ فِي الْآيَةِ، وَقَدْ سُئِلَ الشَّعْبِيُّ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: لِئَلَّا يَضَعَهَا الْعَمُّ عِنْدَ ابْنِهِ وَهُوَ لَيْسَ بِمَحْرَمٍ لَهَا، وَكَذَا الْخَالُ، فَيُفْضِي إِلَى الْفِتْنَةِ. وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ كُلَّ مَنِ اسْتُثْنِيَ مُشْتَرِكٌ بِابْنِهِ فِي الْمَحْرَمِيَّةِ إِلَّا الْعَمَّ وَالْخَالَ. وَهَذَا مِنَ الدَّلَائِلِ الْبَلِيغَةِ عَلَى وُجُوبِ الِاحْتِيَاطِ فِي سَتْرِهِنَّ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذِهِ الْمَفْسَدَةُ مُحْتَمَلَةٌ فِي أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَذْرَهَا أَبُو الْبَعْلِ عِنْدَ ابْنِهِ الْآخَرِ، وَهُوَ لَيْسَ بِمَحْرَمٍ لَهَا، وَأَبُو الْبَعْلِ يَنْقُضُ قَوْلَهُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنِ اسْتُثْنَى اشْتَرَكَ هُوَ وَابْنُهُ فِي الْمَحْرَمِيَّةِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ} (النُّورِ: 61) الْآيَةَ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْأَوْلَادَ فَقِيلَ لِدُخُولِهِمْ فِي قَوْلِهِ: (بُيُوتِكُمْ).
يَنْقَسِمُ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ إِلَى: مَا هُوَ بَيِّنٌ بِنَفْسِهِ، بِلَفْظٍ لَا يَحْتَاجُ إِلَى بَيَانٍ مِنْهُ، وَلَا مِنْ غَيْرِهِ، مِنْ أَقْسَامِ الْقُرْآنِ وَهُوَ كَثِيرٌ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ} (التَّوْبَةِ: 112) الْآيَةَ، وَقَوْلُهُ: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} (الْأَحْزَابِ: 35) الْآيَةَ، وَقَوْلُهُ: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} (الْمُؤْمِنُونَ: 1)، وَقَوْلُهُ: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ} (يس: 13)، وَقَوْلُهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا} (النِّسَاءِ: 47). وَإِلَى مَا لَيْسَ بِبَيِّنٍ بِنَفْسِهِ فَيَحْتَاجُ إِلَى بَيَانٍ. وَبَيَانُهُ إِمَّا فِيهِ فِي آيَةٍ أُخْرَى، أَوْ فِي السُّنَّةِ، لِأَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ لِلْبَيَانِ، مِنَ أَقْسَامِ الْقُرْآنِ قَالَ تَعَالَى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النَّحْلِ: 44). وَالثَّانِي: كَكَثِيرٍ مِنْ أَحْكَامِ الطَّهَارَةِ، وَالصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالصِّيَامِ، وَالْحَجِّ، وَالْمُعَامَلَاتِ، وَالْأَنْكِحَةِ، وَالْجِنَايَاتِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} (الْأَنْعَامِ: 141) وَلَمْ يَذْكُرْ كَيْفِيَّةَ الزَّكَاةِ، وَلَا نِصَابَهَا، وَلَا أَوْقَاصَهَا، وَلَا شُرُوطَهَا، وَلَا أَحْوَالَهَا، وَلَا مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ مِمَّنْ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ، وَكَذَا لَمْ يُبَيِّنْ عَدَدَ الصَّلَاةِ وَلَا أَوْقَاتَهَا. وَكَقَوْلِهِ: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (الْبَقَرَةِ: 185)، {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} (آلِ عِمْرَانَ: 97) وَلَمْ يُبَيِّنِ أَرْكَانَهُ وَلَا شُرُوطَهُ، وَلَا مَا يَحِلُّ فِي الْإِحْرَامِ، وَمَا لَا يَحِلُّ، وَلَا مَا يُوجِبُ الدَّمَ وَلَا مَا لَا يُوجِبُهُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَالْأَوَّلُ قَدْ أَرْشَدَنَا النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَيْهِ بِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ لَمَّا نَزَلَ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} (الْأَنْعَامِ: 82) شَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَأَيُّنَا لَا يَظْلِمُ نَفْسَهُ! قَالَ: لَيْسَ ذَلِكَ، إِنَّمَا هُوَ الشِّرْكُ، أَلَمْ تَسْمَعُوا مَا قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ: {يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (لُقْمَانَ: 13)، فَحَمَلَ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الظُّلْمَ هَاهُنَا عَلَى الشِّرْكِ، لِمُقَابَلَتِهِ بِالْإِيمَانِ. وَاسْتَأْنَسَ عَلَيْهِ بِقَوْلِ لُقْمَانَ. وَقَدْ يَكُونُ بَيَانُهُ مُضْمَرًا فِيهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} (الزُّمَرِ: 73) فَهَذَا يَحْتَاجُ إِلَى بَيَانٍ؛ لِأَنَّ (حَتَّى إِذَا) لَا بُدَّ لَهَا مِنْ تَمَامٍ، وَتَأْوِيلُهُ: حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا. وَمِثْلُهُ: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ} (الرَّعْدِ: 31) أَيْ: لَكَانَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَأْيِ النَّحْوِيِّينَ. قَالَ ابْنُ فَارِسٍ: وَيُسَمَّى هَذَا عِنْدَ الْعَرَبِ الْكَفَّ. وَقَدْ يُومِئُ إِلَى الْمَحْذُوفِ، إِمَّا مُتَأَخِّرٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} (الزُّمَرِ: 22) فَإِنَّهُ لَمْ يَجِيءْ لَهُ جَوَابٌ فِي اللَّفْظِ، لَكِنْ أَوْمَأَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} (الزُّمَرِ: 22)، وَتَقْدِيرُهُ: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ، كَمَنْ قَسَا قَلْبُهُ؛ وَإِمَّا مُتَقَدِّمٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ} (الزُّمَرِ: 9) فَإِنَّهُ أَوْمَأَ إِلَى مَا قَبْلَهُ: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ} (الزُّمَرِ: 8) كَأَنَّهُ قَالَ: أَهَذَا الَّذِي هُوَ هَكَذَا خَيْرٌ أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ؟ فَأَضْمَرَ الْمُبْتَدَأَ. وَنَظِيرُهُ: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} (مُحَمَّدٍ: 15) وَمَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ: {كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ} (مُحَمَّدٍ: 15). وَقَدْ يَكُونُ بَيَانُهُ وَاضِحًا وَهُوَ أَقْسَامٌ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ عَقِبَهُ، مِنَ أَقْسَامِ بَيَانِ الْقُرْآنِ الْوَاضِحِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {اللَّهُ الصَّمَدُ} (الْإِخْلَاصِ: 2) قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ تَفْسِيرُهُ: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (الْإِخْلَاصِ: 3 وَ 4). وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا} (الْمَعَارِجِ: 19) قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: تَفْسِيرُهُ: {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} (الْمَعَارِجِ: 20 وَ 21)، وَقَالَ ثَعْلَبٌ: سَأَلَنِي مُحَمَّدُ بْنُ طَاهِرٍ: مَا الْهَلَعُ؟ فَقُلْتُ: قَدْ فَسَّرَهُ اللَّهُ- تَعَالَى. وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} (آلِ عِمْرَانَ: 97) فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: {مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} (آلِ عِمْرَانَ: 97). وَقَوْلِهِ: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} (الْأَنْبِيَاءِ: 98) وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ الْمَسِيحَ وَعُزَيْرًا وَالْمَلَائِكَةَ؛ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ مُطْلَقَةً، اكْتِفَاءً بِالدَّلَالَةِ الظَّاهِرَةِ، عَلَى أَنَّهُ لَا يُعَذِّبُهُمُ اللَّهُ، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ بِاللَّفْظِ، فَلَمَّا قَالَ الْمُشْرِكُونَ: هَذَا هُوَ الْمَسِيحُ وَعُزَيْرٌ قَدْ عُبِدَا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْزَلَ اللَّهُ: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} (الْأَنْبِيَاءِ: 101). وَقَوْلِهِ: {يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا} (الرَّعْدِ: 12) فَفَسَّرَ رُؤْيَةَ الْبَرْقِ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي رُؤْيَتِهِ إِلَّا الْخَوْفُ مِنَ الصَّوَاعِقِ وَالطَّمَعُ فِي الْأَمْطَارِ. وَفِيهَا لَطِيفَةٌ، وَهَى تَقْدِيمُ الْخَوْفِ عَلَى الطَّمَعِ إِذْ كَانَتِ الصَّوَاعِقُ تَقَعُ مِنْ أَوَّلِ بَرْقَةٍ، وَلَا يَحْصُلُ الْمَطَرُ إِلَّا بَعْدَ تَوَاتُرِ الْبَرَقَاتِ، فَإِنَّ تَوَاتُرَهَا لَا يَكَادُ يَكْذِبُ، فَقَدَّمَ الْخَوْفَ عَلَى الطَّمَعِ، نَاسِخًا لِلْخَوْفِ، كَمَجِيءِ الْفَرَجِ بَعْدَ الشِّدَّةِ. وَكَقَوْلِهِ: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ} الْآيَةَ (النُّورِ: 45) وَفِيهَا لَطِيفَةٌ حَيْثُ بَدَأَ بِالْمَشْيِ عَلَى بَطْنِهِ، فَإِنَّهَا سِيقَتْ لِبَيَانِ الْقُدْرَةِ، وَهُوَ أَعْجَبُ مِنَ الَّذِي بَعْدَهُ، وَكَذَا مَا يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ أَعْجَبُ مِمَّنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ. وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} (النِّسَاءِ: 25) فَهَذَا عَامٌّ فِي الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ الْمُؤْمِنَاتُ بِقَوْلِهِ: {مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} (النِّسَاءِ: 25) فَخَرَجَ تَزَوُّجُ الْأَمَةِ الْكَافِرَةِ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى} (الْإِسْرَاءِ: 72) فَإِنَّ الْأَوَّلَ اسْمٌ مِنْهُ وَالثَّانِي أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ بَعْدَهُ: {وَأَضَلُّ سَبِيلًا} (الْإِسْرَاءِ: 72) وَلِهَذَا قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو الْأَوَّلَ بِالْإِمَالَةِ لِأَنَّهُ اسْمٌ، وَالثَّانِي بِالتَّصْحِيحِ لِيُفَرِّقَ بَيْنَ مَا هُوَ اسْمٌ، وَمَا هُوَ أَفْعَلُ مِنْهُ بِالْإِمَالَةِ وَتَرْكِهَا. فَإِنْ قُلْتَ: فَقَدْ قَالَ النَّحْوِيُّونَ: أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ لَا يَأْتِي مِنَ الْخَلْقِ، فَلَا يُقَالُ: زَيْدٌ أَعْمَى مِنْ عَمْرٍو؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَفَاوَتُ. قُلْتُ: إِنَّمَا جَازَ فِي الْآيَةِ لِأَنَّهُ مِنْ عَمَى الْقَلْبِ، أَيْ مَنْ كَانَ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا أَعْمَى الْقَلْبِ عَمَّا يَرَى مِنَ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ، وَلَا يُؤْمِنُ بِهِ فَهُوَ عَمَّا يَغِيبُ عَنْهُ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ أَعْمَى أَنْ يُؤْمِنَ بِهِ؛ أَيْ أَشَدُّ عَمًى. وَلَا شَكَّ أَنَّ عَمَى الْبَصِيرَةِ مُتَفَاوِتٌ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} (الْبَقَرَةِ: 153) قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ: الْأَشْبَهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالصَّبْرِ هَاهُنَا الصَّبْرُ عَلَى الشَّدَائِدِ؛ لِأَنَّهُ أَتْبَعَ مَدْحَ الصَّابِرِينَ بِقَوْلِهِ: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ} (الْبَقَرَةِ: 154) إِلَى قَوْلِهِ: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ} (الْبَقَرَةِ: 155 وَ 156). الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بَيَانُهُ مُنْفَصِلًا عَنْهُ فِي السُّورَةِ مَعَهُ أَوْ فِي غَيْرِهِ، مِنَ أَقْسَامِ بَيَانِ الْقُرْآنِ الْوَاضِحِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (الْفَاتِحَةِ: 4) وَبَيَانُهُ فِي سُورَةِ الِانْفِطَارِ بِقَوْلِهِ: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} (الِانْفِطَارِ: 17- 18). وَقَوْلِهِ فِي سُورَتَيِ النَّمْلِ (الْآيَةِ: 89) وَالْقَصَصِ (الْآيَةِ: 84): {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} وَلَمْ يُبَيِّنْ فِي لَيْلٍ وَلَا نَهَارٍ، وَبَيَّنَهُ فِي سُورَةِ الدُّخَّانِ بِقَوْلِهِ: {فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} (الْآيَةِ: 3) ثُمَّ بَيَّنَهَا فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ بِقَوْلِهِ: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} (الْآيَةِ: 1) فَالْمُبَارَكَةُ فِي الزَّمَانِ هِيَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ؛ لِأَنَّ الْإِنْزَالَ وَاحِدٌ، وَبِذَلِكَ يُرَدُّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمُبَارَكَةَ لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، وَعَجَبٌ كَيْفَ غَفَلَ عَنْ ذَلِكَ؟!. وَقَدِ اسْتَنْبَطَ بَعْضُهُمْ هُنَا بَيَانًا آخَرَ، وَهُوَ أَنَّهَا لَيْلَةُ سَبْعَةَ عَشَرَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} (الْأَنْفَالِ: 41) وَذَلِكَ لَيْلَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ مِنْ رَمَضَانَ؛ وَفِي ذَلِكَ كَلَامٌ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} (الْمَائِدَةِ: 54) فَسَّرَهُ فِي آيَةِ الْفَتْحِ: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} (الْآيَةِ: 29). وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ} (الْحَجِّ: 23 وَ 24) وَقَدْ فَسَّرَهُ فِي سُورَةِ فَاطِرٍ: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} (الْآيَةِ: 34). وَقَوْلِهِ: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا} (الزُّخْرُفِ: 17) بَيَّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ فِي النَّحْلِ: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى} (الْآيَةِ: 58). وَذَكَرَ اللَّهُ الطَّلَاقَ مُجْمَلًا، وَفَسَّرَهُ فِي سُورَةِ الطَّلَاقِ. وَقَالَ تَعَالَى: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} (الْمُؤْمِنُونَ: 6) فَاسْتَثْنَى الْأَزْوَاجَ وَمِلْكَ الْيَمِينِ، ثُمَّ حَظَرَ تَعَالَى الْجَمْعَ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ، وَبَيْنَ الْأُمِّ وَالِابْنَةِ وَالرَّابَّةِ بِالْآيَةِ الْأُخْرَى (النِّسَاءِ: 33). وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} (الزُّمَرِ: 3) فَإِنَّ ظَاهِرَهُ مُشْكِلٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ- سُبْحَانَهُ- قَدْ هَدَى كُفَّارًا كَثِيرًا وَمَاتُوا مُسْلِمِينَ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ: لَا يَهْدِي مَنْ كَانَ فِي عِلْمِهِ أَنَّهُ قَدْ حَقَّتْ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ، وَبَيَانُهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي السُّورَةِ: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَانَتْ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ} (الزُّمَرِ: 19) وَقَوْلِهِ فِي سُورَةٍ أُخْرَى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} (يُونُسَ: 96 وَ 97). وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} (الْبَقَرَةِ: 186) وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَدْعُونَ فَلَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ وَبَيَانُهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ} (الْأَنْعَامِ: 41) فَبَيَّنَ أَنَّ الْإِجَابَةَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْمَشِيئَةِ، عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ فَسَّرَ الْإِجَابَةَ بِقَوْلِهِ: مَا مِنْ مُسْلِمٍ دَعَا اللَّهَ بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ وَلَا إِثْمٌ، إِلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ إِحْدَى ثَلَاثِ خِصَالٍ: إِمَّا أَنْ يُعَجِّلَ دَعْوَتَهُ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَدْفَعَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا} (الشُّورَى: 20) وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يُرِيدُ ذَلِكَ فَلَا يَحْصُلُ لَهُ، وَبَيَانُهُ فِي قَوْلِهِ: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} (الْإِسْرَاءِ: 18) فَهُوَ كَالَّذِي قَبْلَهُ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَشِيئَةِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ} (الرَّعْدِ: 28) وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} (الْأَنْفَالِ: 2) فَإِنَّهُ قَدْ يُسْتَشْكَلُ اجْتِمَاعُهُمَا؛ لِأَنَّ الْوَجَلَ خِلَافُ الطُّمَأْنِينَةِ؛ وَهَذَا غَفْلَةٌ عَنِ الْمُرَادِ؛ لِأَنَّ الِاطْمِئْنَانَ إِنَّمَا يَكُونُ عَنْ ثَلَجِ الْقَلْبِ، وَشَرْحِ الصَّدْرِ بِمَعْرِفَةِ التَّوْحِيدِ وَالْعِلْمِ، وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنَ الدَّرَجَةِ الرَّفِيعَةِ وَالثَّوَابِ الْجَزِيلِ، وَالْوَجَلُ إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ خَوْفِ الزَّيْغِ، وَالذَّهَابِ عَنِ الْهُدَى، وَمَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْوَعِيدَ بِتَوْجِيلِ الْقُلُوبِ كَذَلِكَ. وَقَدِ اجْتَمَعَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ} (الزُّمَرِ: 23) لِأَنَّ هَؤُلَاءِ قَدْ سَكَنَتْ نُفُوسُهُمْ إِلَى مُعْتَقَدِهِمْ، وَوَثِقُوا بِهِ، فَانْتَفَى عَنْهُمُ الشَّكُّ وَالِارْتِيَابُ، الَّذِي يَعْرِضُ إِنْ كَانَ كَلَامُهُمْ فِيمَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ تَعَوُّذًا، فَجُعِلَ لَهُمْ حِكْمَةٌ دُونَ الْعِلْمِ الْمُوجِبِ لِثَلَجِ الصُّدُورِ وَانْتِفَاءِ الشَّكِّ، وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي قِصَّةِ لُوطٍ: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ} (الْحِجْرِ: 65) فَلَمْ يَسْتَثْنِ امْرَأَتَهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَهِيَ مُسْتَثْنَاةٌ فِي الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ} (هُودٍ: 81) فَأَظْهَرَ الِاسْتِثْنَاءَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ} (الْحِجْرِ: 52) اخْتَصَرَ جَوَابَهُ لِبَيَانِهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ} (الذَّارِيَاتِ: 25)، وَكَقَوْلِهِ: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} (الْبَقَرَةِ: 178) الْآيَةَ، فَإِنَّهَا نَزَلَتْ تَفْسِيرًا وَبَيَانًا لِمُجْمَلِ قَوْلِهِ: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} (الْمَائِدَةِ: 45) لِأَنَّ هَذِهِ لَمَّا نَزَلَتْ لَمْ يُفْهَمْ مُرَادُهَا. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ} (النِّسَاءِ: 23) هِيَ تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} (النِّسَاءِ: 22) الْآيَةَ. وَقَوْلِهِ: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ} (النِّسَاءِ: 7) الْآيَةَ، فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُجْمَلَةٌ، لَا يُعْلَمُ مِنْهَا مَنْ يَرِثُ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ بِالْفَرْضِ وَالتَّعْصِيبِ، وَمَنْ يَرِثُ وَمَنْ لَا يَرِثُ، ثُمَّ بَيِّنَهُ فِي آيَةٍ أُخْرَى، بِقَوْلِهِ: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} (النِّسَاءِ: 11) الْآيَاتِ. وَكَقَوْلِهِ: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} (الْمَائِدَةِ: 1) فَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ مُجْمَلٌ، بَيَّنَهُ فِي آيَةٍ أُخْرَى بِقَوْلِهِ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} (الْمَائِدَةِ: 3). وَكَقَوْلِهِ: {لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ} (الْمَائِدَةِ: 94) الْآيَةَ، فَهَذَا الِابْتِلَاءُ مُجْمَلٌ لَا يَعْلَمُ أَحَدٌ فِي الْحِلِّ أَمْ فِي الْحَرَمِ بَيَّنَهُ قَوْلُهُ: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} (الْمَائِدَةِ: 95) الْآيَةَ. وَكَقَوْلِهِ: {وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} (الرُّومِ: 3) وَهَذَا الْمُجْمَلُ بَيَّنَهُ فِي آيَةٍ أُخْرَى بِقَوْلِهِ: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} (التَّوْبَةِ: 33) الْآيَةَ. وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} (الْبَقَرَةِ: 40) قَالَ الْعُلَمَاءُ: بَيَانُ هَذَا الْعَهْدِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ} (الْمَائِدَةِ: 12) الْآيَةَ، فَهَذَا عَهْدُهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَعَهُدُهُمْ تَمَامُ الْآيَةِ فِي قَوْلِهِ: {لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} (الْمَائِدَةِ: 12) فَإِذَا وَفُّوا الْعَهْدَ الْأَوَّلَ أُعْطُوا مَا وُعِدُوا. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا} (الرَّعْدِ: 43) يَرُدُّ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: {يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} (يس: 1- 3). وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} (الدُّخَانِ: 12) فَقِيلَ لَهُمْ: {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} (الْمُؤْمِنُونَ: 75) وَقِيلَ بَلْ نَزَلَ بَعْدَهُ: {إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ} (الدُّخَانِ: 15) وَالتَّقْدِيرُ: إِنْ كَشَفْنَا الْعَذَابَ تَعُودُوا. وَقَوْلِهِ: {لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} (الزُّخْرُفِ: 31) فَرَدَّ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} (الْقَصَصِ: 68). وَقَوْلِهِ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ} (الْفُرْقَانِ: 60) بَيَانُهُ: {الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ} (الرَّحْمَنِ: 1 وَ 2). وَقَوْلِهِ: {قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا} (الْأَنْفَالِ: 31) فَقِيلَ لَهُمْ: {لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} (الْإِسْرَاءِ: 88). وَقَوْلِهِ: {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ} (ص: 6) فَقِيلَ لَهُمْ فِي الْجَوَابِ: {فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} (فُصِّلَتْ: 24) الْآيَةَ. وَمِنْهُ: {أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ} (الْقَمَرِ: 44) فَقِيلَ لَهُمْ: {مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ} (الصَّافَّاتِ: 25). وَمِنْهُ: {لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} (آلِ عِمْرَانَ: 168) فَرَدَّ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: {لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} (آلِ عِمْرَانَ: 154). وَقَوْلِهِ: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ} (الطُّورِ: 33) رَدَّ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} (الْحَاقَّةِ: 44 وَ 45). وَقَوْلِهِ: {مَا لِهَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ} (الْفُرْقَانِ: 7) فَقِيلَ لَهُمْ: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ} (الْفُرْقَانِ: 20). وَقَوْلِهِ: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} (الْفُرْقَانِ: 32) فَقِيلَ فِي سُورَةٍ أُخْرَى: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ} (الْإِسْرَاءِ: 106). وَقوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ} (النَّمْلِ: 45) تَفْسِيرُ هَذَا الِاخْتِصَامِ مَا قَالَ فِي سُورَةٍ أُخْرَى: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ} (الْأَعْرَافِ: 75) الْآيَةَ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} (يُونُسَ: 64) وَفَسَّرَهَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِقَوْلِهِ: {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} (فُصِّلَتْ: 30). وَمِنْهُ حِكَايَةٌ عَنْ فِرْعَوْنَ لَعَنَهُ اللَّهُ: {وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} (الْمُؤْمِنِ: 29) فَرَدَّ عَلَيْهِ فِي قوله: {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} (هُودٍ: 97). وَقَوْلِهِ: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ} (الْمُجَادَلَةِ: 18) وَذَكَرَ هَذَا الْحَلْفَ فِي قَوْلِهِ: {قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} (الْأَنْعَامِ: 23). وَقَوْلِهِ فِي قِصَّةِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} (الْقَمَرِ: 10) بُيِّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} (الْأَنْبِيَاءِ: 77). وَقَوْلِهِ: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ} (الْبَقَرَةِ: 88) أَيْ أَوْعِيَةٌ لِلْعِلْمِ فَقِيلَ لَهُمْ: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} (الْإِسْرَاءِ: 85). وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ مِنْ هَذَا قَوْلَهُ تَعَالَى: {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} (الْأَعْرَافِ: 143) قَالَ: فَإِنَّ آيَةَ الْبَقَرَةِ وَهَى قَوْلُهُ: {حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} (الْآيَةِ: 55) تَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: {رَبِّ أَرِنِي} لَمْ يَكُنْ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ مُطَالَبَةَ قَوْمِهِ وَلَمْ يُثْبِتْ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّهُ سَأَلَ الرُّؤْيَةَ إِلَّا وَقْتَ حُضُورِ قَوْمِهِ مَعَهُ وَسُؤَالِهِمْ ذَلِكَ. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} (الْفَاتِحَةِ: 7) بَيَّنَةُ فِي آيَةِ النِّسَاءِ بِقَوْلِهِ: {مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} (الْآيَةِ: 69). فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا فَسَّرَهَا آيَةُ مَرْيَمَ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} (الْآيَةِ: 58) الْآيَةَ! قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ أَوَّلًا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي النَّبِيِّينَ فَقَطْ، لِقَوْلِهِ: {وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} (مَرْيَمَ: 58) وَقَوْلُهُ: {وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا} (مَرْيَمَ: 58) وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِالْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ. كَيْفَ وَقَدْ ذُكِرَتْ مَرْيَمُ وَهِيَ صِدِّيقَةٌ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ! وَلَوْ سُلِّمَ أَنَّهَا فِي الْأَنْبِيَاءِ خَاصَّةً، فَهُمْ بَعْضُ مَنْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَجَعَلَهُمْ فِي آيَةِ النِّسَاءِ صِنْفًا مِنَ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِمْ، فَكَانَتْ آيَةُ النِّسَاءِ مِنْ حَيْثُ هِيَ عَامَّةٌ أَوْلَى بِتَفْسِيرِ قَوْلِهِ: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} (الْفَاتِحَةِ: 7) وَلِأَنَّ آيَةَ مَرْيَمَ لَيْسَ فِيهَا إِلَّا الْإِخْبَارُ بِأَنَّ اللَّهَ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} (الْفَاتِحَةِ: 6). وَالرَّغْبَةُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي الثَّبَاتِ عَلَيْهَا، هِيَ نَفْسُ الطَّاعَةِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا هُدِيَ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، فَقَدْ هُدِيَ إِلَى الطَّاعَةِ الْمُقْتَضِيَةِ أَنْ يَكُونَ مَعَ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِمْ. وَظَهَرَ بِهَذَا أَنَّ آيَةَ النِّسَاءِ أَمَسُّ بِتَفْسِيرِ سُورَةِ الْحَمْدِ مِنَ الْآيَةِ الَّتِي فِي سُورَةِ مَرْيَمَ.
وَقَدْ يَكُونُ اللَّفْظُ مُقْتَضِيًا لِأَمْرٍ وَيُحْمَلُ عَلَى غَيْرِهِ، لِأَنَّهُ أَوْلَى بِذَلِكَ الِاسْمِ مِنْهُ، وَلَهُ أَمْثِلَةٌ: مِنْهَا تَفْسِيرُهُمُ السَّبْعَ {الْمَثَانِي} (الْحِجْرِ: 87) بِالْفَاتِحَةِ مَعَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّ الْقُرْآنَ كُلَّهُ {مَثَانِيَ} (الزُّمَرِ: 23). وَمِنْهَا قَوْلُهُ عَنْ أَهْلِ الْكِسَاءِ: هَؤُلَاءِ أَهْلُ بَيْتِي فَأَذْهِبْ عَنْهُمُ الرِّجْسَ وَطَهِّرَهُمْ تَطْهِيرًا ، وَسِيَاقُ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى إِرَادَةِ الْأَزْوَاجِ، وَفِيهِنَّ نَزَلَتْ، وَلَا يُمْكِنُ خُرُوجُهُنَّ عَنِ الْآيَةِ، لَكِنْ لَمَّا أُرِيدَ دُخُولُ غَيْرِهِنَّ قِيلَ بِلَفْظِ التَّذْكِيرِ: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} (الْأَحْزَابِ: 33) فَعُلِمَ أَنَّ هَذِهِ الْإِرَادَةَ شَامِلَةٌ لِجَمِيعِ أَهْلِ الْبَيْتِ: الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ} (الْأَحْزَابِ: 32) وَدَلَّ حَدِيثُ الْكِسَاءِ عَلَى أَنَّ عَلِيًّا وَفَاطِمَةَ أَحَقُّ بِهَذَا الْوَصْفِ مِنَ الْأَزْوَاجِ. وَمِنْهَا قَوْلُهُ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنِ الْمَسْجِدِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى: هُوَ مَسْجِدِي هَذَا. وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّ مَا ذَكَرَهُ أَحَقُّ بِهَذَا الِاسْمِ مِنْ غَيْرِهِ، وَالْحَصْرُ الْمَذْكُورُ حَصْرُ الْكَمَالِ، كَمَا يُقَالُ: هَذَا هُوَ الْعَالِمُ الْعَدْلُ، وَإِلَّا فَلَا شَكَّ أَنَّ مَسْجِدَ قُبَاءَ هُوَ مَا أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى، وَسِيَاقُ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُرَادٌ بِالْآيَةِ.
وَقَدْ يَكُونُ اللَّفْظُ مُحْتَمِلًا لِمَعْنَيَيْنِ وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ مَا يُعَيِّنُهُ لِأَحَدِهِمَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} (الْبَقَرَةِ: 7) فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ السَّمْعُ مَعْطُوفًا عَلَى {خَتَمَ} وَيُحْتَمَلُ الْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ: {قُلُوبِهِمْ} لِأَنَّ الْخَتْمَ إِنَّمَا يَكُونُ عَلَى الْقَلْبِ، وَهَذَا أَوْلَى لِقَوْلِهِ فِي الْجَاثِيَةِ: {وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً} (الْآيَةِ: 23). وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحِجْرِ: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} (الْآيَةِ: 42) فَالِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ لِقَوْلِهِ فِي الْإِسْرَاءِ: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا} (الْآيَةِ: 65) وَلَوْ كَانَ مُتَّصِلًا لَاسْتَثْنَاهُمْ، فَلَمَّا لَمْ يَسْتَثْنِهِمْ دَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَدْخُلُوا. وَقَوْلِهِ: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} (الْأَنْبِيَاءِ: 30) فَقَدْ قِيلَ: إِنَّ حَيَاةَ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّمَا هُوَ بِالْمَاءِ. قَالَ ابْنُ دَرَسْتَوَيْهِ: وَهَذَا غَيْرُ جَائِزٍ فِي الْعَرَبِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمَعْنَى كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ {حَيٍّ} مَجْرُورًا وَلَكَانَ مَنْصُوبًا، وَإِنَّمَا {حَيٍّ} صِفَةٌ لِشَيْءٍ؛ وَمَعْنَى الْآيَةِ: خَلَقَ جَمِيعَ الْخَلْقِ مِنَ الْمَاءِ وَيَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} (النُّورِ: 45). وَمِمَّا يَحْتَمِلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ} (طه: 39) فَإِنَّ {فَلْيُلْقِهِ} يَحْتَمِلُ الْأَمْرَ وَالْخَبَرَ، كَأَنَّهُ قَالَ: فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ يُلْقِيهِ الْيَمُّ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَمْرًا بِإِلْقَائِهِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} (الْمُدَّثِّرِ: 11) فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ خَلَقْتُهُ وَحِيدًا فَرِيدًا مِنْ مَالِهِ وَوَلَدِهِ. وَفِي الْآيَةِ بَحْثٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ أَبَا الْبَقَاءِ أَجَازَ فِيهَا، وَفِي قَوْلِهِ: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ} (الْمُزَّمِّلِ: 11) أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ عَاطِفَةً، وَهُوَ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ قَدْ أَمَرَ نَبِيَّهُ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يَتْرُكَهُ، وَكَأَنَّهُ قَالَ: اتْرُكْنِي وَاتْرُكْ مَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا وَكَذَلِكَ اتْرُكْنِي، وَاتْرُكِ الْمُكَذِّبِينَ فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: خَلِّ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ، وَهِيَ وَاوُ " مَعَ " كَقَوْلِهِ: " لَوْ تُرِكَتِ النَّاقَةُ وَفَصِيلَهَا لَرَضَعَهَا ". وَقَدْ يَكُونُ لِلَّفْظِ ظَاهِرٌ وَبَاطِنٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} (الْبَقَرَةِ: 125) ظَاهِرُهُ الْكَعْبَةُ، وَبَاطِنُهُ الْقَلْبُ، قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَنَحْنُ نَقْطَعُ أَنَّ الْمُرَادَ بِخِطَابِ إِبْرَاهِيمَ الْكَعْبَةُ؛ لَكِنَّ الْعَالِمَ يَتَجَاوَزُ إِلَى الْقَلْبِ بِطَرِيقِ الِاعْتِبَارِ عِنْدَ قَوْمٍ، وَالْأَوْلَى عِنْدَ آخَرِينَ، وَمِنْ بَاطِنِهِ إِلْحَاقُ سَائِرِ الْمَسَاجِدِ بِهِ، وَمِنْ ظَاهِرِهِ عِنْدَ قَوْمٍ الْعُبُورُ فِيهِ.
وَمِمَّا يُعِينُ عَلَى الْمَعْنَى عِنْدَ الْإِشْكَالِ أُمُورٌ: أَحَدُهَا: رَدُّ الْكَلِمَةِ لِضِدِّهَا؛ مِمَّا يُعِينُ عَلَى الْمَعْنَى عِنْدَ الْإِشْكَالِ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} (الْإِنْسَانِ: 24) أَيْ وَلَا كَفُورًا، وَالطَّرِيقَةُ أَنْ يُرَدَّ النَّهْيُ مِنْهُ إِلَى الْأَمْرِ، فَنَقُولُ: مَعْنَى أَطِعْ هَذَا أَوْ هَذَا أَطِعْ أَحَدَهُمَا، وَعَلَى هَذَا مَعْنَاهُ فِي النَّهْيِ، وَلَا تُطِعْ وَاحِدًا مِنْهُمَا. الثَّانِي: رَدُّهَا إِلَى نَظِيرِهَا؛ مِمَّا يُعِينُ عَلَى الْمَعْنَى عِنْدَ الْإِشْكَالِ فِي الْقُرْآنِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} (النِّسَاءِ: 11) فَهَذَا عَامٌّ، وَقَوْلِهِ: {فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} (النِّسَاءِ: 11) قَوْلٌ حُدَّ أَحَدُ طَرَفَيْهِ، وَأُرْخِيَ الطَّرَفُ الْآخَرُ إِلَى غَيْرِ نِهَايَةٍ؛ لِأَنَّ أَوَّلُ مَا فَوْقَ الثِّنْتَيْنِ الثَّلَاثَ، وَآخِرَهُ لَا نِهَايَةَ لَهُ. وَقَوْلِهِ: {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً} (النِّسَاءِ: 11) مَحْدُودَةُ الطَّرَفَيْنِ، فَالثِّنْتَانِ خَارِجَتَانِ مِنْ هَذَا الْفَصْلِ، وَأَمْسَكَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ ذِكْرِ الثِّنْتَيْنِ، وَذَكَرَ الْوَاحِدَةَ وَالثَّلَاثَ وَمَا فَوْقَهَا، وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي الْأَخَوَاتِ: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} (النِّسَاءِ: 176) الْآيَةَ، فَذَكَرَ الْوَاحِدَةَ وَالِاثْنَتَيْنِ، وَأَمْسَكَ عَنْ ذِكْرِ الثَّلَاثِ وَمَا فَوْقَهُنَّ، فَضَمَّنَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَصْلَيْنِ مَا كَفَّ عَنْ ذِكْرِهِ فِي الْآخَرِ، فَوَجَبَ حَمْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيمَا أَمْسَكَ عَنْهُ فِيهِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي غَيْرِهِ. الثَّالِثُ: مَا يَتَّصِلُ بِهَا مِنْ خَبَرٍ أَوْ شَرْطٍ أَوْ إِيضَاحٍ فِي مَعْنًى آخَرَ، مِمَّا يُعِينُ عَلَى الْمَعْنَى عِنْدَ الْإِشْكَالِ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} (فَاطِرٍ: 10) يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهَا مَنْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَعِزَّ أَوْ تَكُونُ الْعِزَّةُ لَهُ؛ لَكِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} (فَاطِرٍ: 10) يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهَا: مَنْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَعْلَمَ لِمَنِ الْعِزَّةُ، فَإِنَّهَا لِلَّهِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (الْمَائِدَةِ: 33) فَإِنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِيهَا عَلَى الْحَالِ الَّتِي هِيَ شَرْطٌ فِي عُقُوبَتِهِ الْمُعَيَّنَةِ، وَأَنْوَاعُ الْمُحَارَبَةِ وَالْفَسَادِ كَثِيرَةٌ، وَإِنَّمَا اسْتُفِيدَتِ الْحَالُ مِنَ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الْقَتْلَ عَلَى مَنْ قَتَلَ وَلَمْ يَأْخُذِ الْمَالَ، وَالصَّلْبَ عَلَى مَنْ جَمَعَهُمَا، وَالْقِطَعَ عَلَى مَنْ أَخَذَ الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلْ، وَالنَّفْيَ عَلَى مَنْ لَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ سِوَى السَّعْيِ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ. الرَّابِعُ: دَلَالَةُ السِّيَاقِ، فَإِنَّهَا تُرْشِدُ إِلَى تَبْيِينِ الْمُجْمَلِ، وَالْقَطْعِ بِعَدَمِ احْتِمَالِ غَيْرِ الْمُرَادِ، وَتَخْصِيصِ الْعَامِّ، وَتَقْيِيدِ الْمُطْلَقِ، وَتَنَوُّعِ الدَّلَالَةِ، وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْقَرَائِنِ الدَّالَّةِ عَلَى مُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ، فَمَنْ أَهْمَلَهُ غَلِطَ فِي نَظِيرِهِ، وَغَالَطَ فِي مُنَاظَرَاتِهِ، وَانْظُرْ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} (الدُّخَانِ: 49) كَيْفَ تَجِدُ سِيَاقَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ الذَّلِيلُ الْحَقِيرُ. الْخَامِسُ: مُلَاحَظَةُ النَّقْلِ عَنِ الْمَعْنَى الْأَصْلِيِّ، مِمَّا يُعِينُ عَلَى الْمَعْنَى عِنْدَ الْإِشْكَالِ فِي الْقُرْآنِ وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ يُسْتَعَارُ الشَّيْءُ لِمُشَابِهِهِ؛ ثُمَّ يُسْتَعَارُ مِنَ الْمُشَابِهِ لِمُشَابِهِ الْمُشَابِهِ؛ وَيَتَبَاعَدُ عَنِ الْمُسَمَّى الْحَقِيقِيِّ بِدَرَجَاتٍ؛ فَيَذْهَبُ عَنِ الذِّهْنِ الْجِهَةُ الْمُسَوِّغَةُ لِنَقْلِهِ مِنَ الْأَوَّلِ إِلَى الْآخِرِ وَطَرِيقُ مَعْرِفَةِ ذَلِكَ بِالتَّدْرِيجِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} (آلِ عِمْرَانَ: 28) وَذَلِكَ أَنَّ أَصْلَ " دُونَ " لِلْمَكَانِ الَّذِي هُوَ أَنْزِلُ مِنْ مَكَانٍ غَيْرِهِ، وَمِنْهُ الشَّيْءُ الدُّونُ لِلْحَقِيرِ، ثُمَّ اسْتُعِيرَ لِلتَّفَاوُتِ فِي الْأَحْوَالِ وَالرُّتَبِ، فَقِيلَ: زِيدٌ دُونَ عَمْرٍو فِي الْعِلْمِ وَالشَّرَفِ، ثُمَّ اتَّسَعَ فِيهِ، فَاسْتُعِيرَ فِي كُلِّ مَا يَتَجَاوَزُ حَدًّا إِلَى حَدٍّ، وَتَخَطَّى حُكْمًا إِلَى حُكْمٍ آخَرَ، كَمَا فِي الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ؛ وَالتَّقْدِيرُ: لَا تَتَجَاوَزُوا وِلَايَةَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى وِلَايَةِ الْكَافِرِينَ. وَكَذَلِكَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} (الْبَقَرَةِ: 23) أَيْ تَجَاوَزُوا اللَّهَ فِي دُعَائِكُمْ إِلَى دُعَاءِ آلِهَتِكُمْ، الَّذِينَ تَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَشْهَدُونَ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَيْ لَا تَسْتَشْهِدُوا بِاللَّهِ، فَإِنَّهَا حُجَّةٌ يَرْكَنُ إِلَيْهَا الْعَاجِزُ عَنِ الْبَيِّنَاتِ مِنَ النَّاسِ، بَلِ ائْتُوا بِبَيِّنَةٍ تَكُونُ حُجَّةً عِنْدَ الْحُكَّامِ، وَهَذَا يُؤْذِنُ بِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَهُمْ تَشَبُّثٌ سِوَى قَوْلِهِمْ: اللَّهُ يَشْهَدُ لَنَا عَلَيْكُمْ. هَذَا إِذَا جَعَلْتَ {مِنْ دُونِ اللَّهِ} مُتَعَلِّقًا بِـ (ادْعُوا) فَإِنْ جَعَلْتَهُ مُتَعَلِّقًا بِـ {شُهَدَاءَكُمْ} احْتَمَلَ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: ادْعُوا الَّذِينَ تَجَاوَزْتُمْ فِي زَعْمِكُمْ شَهَادَةَ اللَّهِ؛ أَيْ شَهَادَتَهُمْ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَالثَّانِي: عَلَى أَنْ يُرَادَ بِـ (شُهَدَاءَكُمْ) آلِهَتُكُمْ؛ أَيِ ادْعُوا الَّذِينَ تَجَاوَزْتُمْ فِي اتِّخَاذِكُمْ أُلُوهِيَّةَ اللَّهِ إِلَى أُلُوهِيَّتِهِمْ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: {مِنْ دُونِ اللَّهِ} أَيْ مِنْ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ يَشْهَدُونَ لَكُمْ أَنَّكُمْ آمَنْتُمْ بِمِثْلِهِ؛ وَفِي هَذَا إِرْخَاءُ عِنَانِ الِاعْتِمَادِ عَلَى أَنَّ فُصَحَاءَهُمْ تَأْنَفُ نُفُوسُهُمْ مِنْ مُسَاجَلَةِ الْحَقِّ الْجَلِيِّ بِالْبَاطِلِ اللَّجْلَجِيِّ. وَتَعْلِيقُهُ بِـ (ادْعُوا) عَلَى هَذَا جَائِزٌ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ} (الْبَقَرَةِ: 259) فَإِنَّهُ عَطَفَهُ عَلَى قَوْلِهِ: {أَلَمْ تَرَ} لِأَنَّهَا بِمَعْنَى هَلْ رَأَيْتَ. السَّادِسُ: مَعْرِفَةُ النُّزُولِ، مِمَّا يُعِينُ عَلَى الْمَعْنَى عِنْدَ الْإِشْكَالِ فِي الْقُرْآنِ وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْمُعِينِ عَلَى فَهْمِ الْمَعْنَى، وَسَبَقَ مِنْهُ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ جُمْلَةٌ، وَكَانَتِ الصَّحَابَةُ وَالسَّلَفُ يَعْتَمِدُونَهُ، وَكَانَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ قَدْ فَهِمَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} (الْبَقَرَةِ: 158) أَنَّ السَّعْيَ لَيْسَ بِرُكْنٍ، فَرَدَّتْ عَلَيْهِ عَائِشَةُ ذَلِكَ، وَقَالَتْ: لَوْ كَانَ كَمَا قُلْتَ، لَقَالَ: فَلَا جَنَاحَ عَلَيْهِ أَلَّا يَطَّوَّفَ بِهِمَا، وَثَبَتَ أَنَّهُ إِنَّمَا أَتَى بِهَذِهِ الصِّيغَةِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ وَقَعَ فَزَعٌ فِي قُلُوبِ طَائِفَةٍ مِنَ النَّاسِ كَانُوا يَطُوفُونَ قَبْلَ ذَلِكَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ لِلْأَصْنَامِ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ، كَرِهُوا الْفِعْلَ الَّذِي كَانُوا يُشْرِكُونَ بِهِ، فَرَفَعَ اللَّهُ ذَلِكَ الْجُنَاحَ مِنْ قُلُوبِهِمْ، وَأَمَرَهُمْ بِالطَّوَافِ؛ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ. فَثَبَتَ أَنَّهَا نَزَلَتْ رَدًّا عَلَى مَنْ كَانَ يَمْتَنِعُ مِنَ السَّعْيِ. وَمِنْ ذَلِكَ قِصَّةُ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ فِي سُؤَالِهِ ابْنَ عَبَّاسٍ: لَئِنْ كَانَ كُلُّ امْرِئٍ فَرِحَ بِمَا أُوتِيَ، وَأَحَبَّ أَنْ يُحْمَدَ بِمَا لَمْ يَفْعَلْ مُعَذَّبًا لِنُعَذَّبَنَّ أَجْمَعُونَ! فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذِهِ الْآيَاتُ نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ ثُمَّ تَلَا: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} (آلِ عِمْرَانَ: 187) وَتَلَا: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} (آلِ عِمْرَانَ: 188) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَأَلَهُمُ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ شَيْءٍ فَكَتَمُوهُ، وَأَخْبَرُوهُ بِغَيْرِهِ، فَخَرَجُوا وَقَدْ أَرَوْهُ أَنْ قَدْ أَخْبَرُوهُ بِمَا سَأَلَهُمْ عَنْهُ، وَاسْتَحْمَدُوا بِذَلِكَ إِلَيْهِ، وَفَرِحُوا بِمَا أُوتُوا مِنْ كِتْمَانِهِمْ مَا سَأَلَهُمْ عَنْهُ. وَقَدْ سَبَقَ فِيهِ كَلَامٌ فِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ فِي مَعْرِفَةِ سَبَبِ النُّزُولِ فَاسْتَحْضِرْهُ. وَمِنْ هَذَا مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} (الْأَنْعَامِ: 145) أَنَّهُ لَا مُتَمَسَّكَ فِيهَا لِمَالِكٍ عَلَى الْعُمُومِ؛ لِأَنَّهُمْ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ أَشْيَاءَ فَأَجَابَهُمْ عَنِ الْمُحَرَّمَاتِ مِنْ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ، وَحَكَاهُ غَيْرُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. السَّابِعُ: السَّلَامَةُ مِنَ التَّدَافُعِ، مِمَّا يُعِينُ عَلَى الْمَعْنَى عِنْدَ الْإِشْكَالِ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} (التَّوْبَةِ: 122) فَإِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّ الطَّوَائِفَ لَا تَنْفِرُ مِنْ أَمَاكِنِهَا وَبَوَادِيهَا جُمْلَةً، بَلْ بَعْضُهُمْ لِتَحْصِيلِ التَّفَقُّهِ بِوُفُودِهِمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَإِذَا رَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ أَعْلَمُوهُمْ بِمَا حَصَلَ لَهُمْ، وَالْفَائِدَةُ فِي كَوْنِهِمْ لَا يَنْفِرُونَ جَمِيعًا عَنْ بِلَادِهِمْ حُصُولُ الْمَصْلَحَةِ فِي حِفْظِ مَنْ يَتَخَلَّفُ مِنْ بَعْضِهِمْ مِمَّنْ لَا يُمْكِنُ نَفِيرُهُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْفِئَةِ النَّافِرَةِ هِيَ مَنْ تَسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي مَغَازِيهِ وَسَرَايَاهُ، وَالْمَعْنَى حِينَئِذٍ: أَنَّهُ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَنْفِرُوا أَجْمَعِينَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي مَغَازِيهِ لِتَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِبَقَاءِ مَنْ يَبْقَى فِي الْمَدِينَةِ، وَالْفِئَةُ النَّافِرَةُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَتَفَقَّهُ فِي الدِّينِ بِسَبَبِ مَا يُؤْمَرُونَ بِهِ وَيَسْمَعُونَ مِنْهُ؛ فَإِذَا رَجَعُوا إِلَى مَنْ بَقِيَ بِالْمَدِينَةِ أَعْلَمُوهُمْ بِمَا حَصَلَ لَهُمْ فِي صُحْبَةِ الرَّسُولِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنَ الْعِلْمِ. وَالِاحْتِمَالَانِ قَوْلَانِ لِلْمُفَسِّرِينَ. قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَالْأَقْرَبُ عِنْدِي هُوَ الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّا لَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الِاحْتِمَالِ الثَّانِي لَخَالَفَهُ ظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ} (التَّوْبَةِ: 120) وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا} (النِّسَاءِ: 71) فَإِنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي إِمَّا طَلَبَ الْجَمِيعِ بِالنَّفِيرِ، أَوْ إِبَاحَتَهُ؛ وَذَلِكَ فِي ظَاهِرِهِ يُخَالِفُ النَّهْيَ عَنْ نَفْرِ الْجَمِيعِ، وَإِذَا تَعَارَضَ مَحْمَلَانِ يَلْزَمُ مِنْ أَحَدِهِمَا مُعَارَضَتُهُ وَلَا يَلْزَمُ مِنَ الْآخَرِ، فَالثَّانِي أَوْلَى. وَلَا نَعْنِي بِلُزُومِ التَّعَارُضِ لُزُومًا لَا يُجَابُ عَنْهُ، وَلَا يَتَخَرَّجُ عَلَى وَجْهٍ مَقْبُولٍ؛ بَلْ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنَ الْآيَتَيْنِ يُجَابُ عَنْهُ بِحَمْلِ (أَوْ) فِي قَوْلِهِ: {أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا} (النِّسَاءِ: 71) عَلَى التَّفْصِيلِ دُونَ التَّخْيِيرِ، كَمَا رَضِيَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ النُّحَاةِ، فَيَكُونُ نَفِيرُهُمْ (ثُبَاتٍ) مِمَّا لَا تَدْعُو الْحَاجَةُ إِلَى نَفِيرِهِمْ فِيهِ (جَمِيعًا) وَنَفِيرُهُمْ جَمِيعًا فِيمَا تَدْعُو الْحَاجَةُ إِلَيْهِ، وَيُحْمَلُ قَوْلُهُ: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ} (التَّوْبَةِ: 120) عَلَى مَا إِذَا كَانَ الرَّسُولُ هُوَ النَّافِرُ لِلْجِهَادِ، وَلَمْ تَحْصُلِ الْكِفَايَةُ إِلَّا بِنَفِيرِ الْجَمِيعِ مِمَّنْ يَصْلُحُ لِلْجِهَادِ، فَهَذَا أَوْلَى مِنْ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ بِالنَّسْخِ أَوْ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ نَاسِخَةً لِمَا اقْتَضَى النَّفِيرَ جَمِيعًا. وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ مَنْعَ النَّفِيرِ جَمِيعًا حَيْثُ يَكُونُ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالْمَدِينَةِ، فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَنْفِرُوا جَمِيعًا وَيَتْرُكُوهُ وَحْدَهُ. وَالْحَمْلُ أَيْضًا عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى مِنْ هَذَا؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ يَقْتَضِي أَنَّ نَفِيرَهُمْ لِلتَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ وَالْإِنْذَارِ، وَنَفِيرُهُمْ مَعَ بَقَاءِ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَعْدَهُمْ لَا يُنَاسِبُهُ التَّعْلِيلُ بِالتَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ؛ إِذِ التَّفَقُّهُ مِنْهُ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَتَعَلُّمُ الشَّرَائِعَ مِنْ جِهَتِهِ، فَكَيْفَ يَكُونُ خُرُوجُهُمْ عَلَيْهِ مُعَلِّلًا لِلتَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (التَّغَابُنِ: 16) فَإِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ التَّسْهِيلِ وَالتَّخْفِيفِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ التَّشْدِيدِ؛ بِمَعْنَى أَنَّهُ مَا وُجِدَتِ الِاسْتِطَاعَةُ فَاتَّقُوا؛ أَيْ لَا يَبْقَى مِنَ الِاسْتِطَاعَةِ شَيْءٌ، وَبِمَعْنَى التَّخْفِيفِ يَرْجِعُ إِلَى أَنَّ الْمَعْنَى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا تَيَسَّرَ عَلَيْكُمْ أَوْ مَا أَمْكَنَكُمْ مِنْ غَيْرِ عُسْرٍ. قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ الْقُشَيْرِيُّ: وَيُصْلِحُ مَعْنَى التَّخْصِيصِ قَوْلُهُ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ.
وَقَدْ يَكُونُ اللَّفْظُ مُحْتَمِلًا لِمَعْنَيَيْنِ وَهُوَ فِي أَحَدِهِمَا أَظْهَرُ، فَيُسَمَّى الرَّاجِحَ ظَاهِرًا، وَالْمَرْجُوحَ مُؤَوَّلًا. مِثَالُ الْمُؤَوَّلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} (الْحَدِيدِ: 4) فَإِنَّهُ يَسْتَحِيلُ حَمْلُ الْمَعِيَّةِ عَلَى الْقُرْبِ بِالذَّاتِ، فَتَعَيَّنَ صَرْفُهُ عَنْ ذَلِكَ، وَحَمْلُهُ إِمَّا عَلَى الْحِفْظِ وَالرِّعَايَةِ، أَوْ عَلَى الْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ وَالرُّؤْيَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} (ق: 16). وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} (الْإِسْرَاءِ: 24) فَإِنَّهُ يَسْتَحِيلُ حَمْلُهُ عَلَى الظَّاهِرِ لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَكُونَ آدَمِيٌّ لَهُ أَجْنِحَةٌ، فَيُحْمَلُ عَلَى الْخُضُوعِ وَحُسْنِ الْخُلُقِ. وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} (الْإِسْرَاءِ: 13) يَسْتَحِيلُ أَنْ يُشَدَّ فِي الْقِيَامَةِ فِي عُنُقِ كُلِّ طَائِعٍ وَعَاصٍ وَغَيْرِهِمَا طَيْرٌ مِنَ الطُّيُورِ، فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الْتِزَامِ الْكِتَابِ فِي الْحِسَابِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ. وَمِثَالُ الظَّاهِرِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ} (الْأَنْعَامِ: 145) فَإِنَّ الْبَاغِيَ يُطْلَقُ عَلَى الْجَاهِلِ وَعَلَى الظَّالِمِ وَهُوَ فِيهِ أَظْهَرُ وَأَغْلَبُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ} (الْحَجِّ: 60). وَقَوْلِهِ: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} (الْبَقَرَةِ: 222) فَيُقَالُ لِلِانْقِطَاعِ طُهْرٌ، وَلِلْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ؛ غَيْرَ أَنَّ الثَّانِيَ أَظْهَرُ. وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} (الْبَقَرَةِ: 196) فَيُقَالُ: لِلِابْتِدَاءِ التَّمَامُ وَلِلْفَرَاغِ، غَيْرَ أَنَّ الْفَرَاغَ أَظْهَرُ وَقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} (الطَّلَاقِ: 2) فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْخِيَارُ فِي الْأَجَلِ أَوْ بَعْدَهُ؛ وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ، لَكِنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ مُفَارَقَةُ الْأَجَلِ. وَقَوْلِهِ: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} (الْبَقَرَةِ: 158) وَالظَّاهِرُ يَقْتَضِي حَمْلَهُ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: {فَلَا جُنَاحَ} بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: لَا بَأْسَ، وَذَلِكَ لَا يَقْتَضِي الْوُجُوبَ وَلَكِنَّ هَذَا الظَّاهِرَ مَتْرُوكٌ بَلْ هُوَ وَاجِبٌ؛ لِأَنَّ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ وَاجِبٌ، وَلِأَنَّهُ ذَكَرَهُ بَعْدَ التَّطَوُّعِ، فَقَالَ: {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} فَدَلَّ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ السَّابِقَ نَهْيٌ عَنْ تَرْكِ وَاجِبٍ، لَا نَهْيٌ عَنْ تَرْكِ مَنْدُوبٍ أَوْ مُسْتَحَبٍّ. وَقَدْ يَكُونُ الْكَلَامُ ظَاهِرًا فِي شَيْءٍ فَيُعْدَلُ بِهِ عَنِ الظَّاهِرِ بِدَلِيلٍ آخَرَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} (الْبَقَرَةِ: 197) وَالْأَشْهُرُ اسْمٌ لِثَلَاثَةٍ؛ لِأَنَّهُ أَقَلُّ الْجَمْعِ. وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} (النِّسَاءِ: 11) فَالظَّاهِرُ اشْتِرَاطُ ثَلَاثَةٍ مِنَ الْإِخْوَةِ، لَكِنْ قَامَ الدَّلِيلُ مِنْ خَارِجٍ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ اثْنَانِ، لِأَنَّهُمَا يَحْجُبَانِهَا عَنِ الثُّلُثِ إِلَى السُّدُسِ.
قَدْ يَكُونُ اللَّفْظُ مُشْتَرَكًا بَيْنَ حَقِيقَتَيْنِ أَوْ حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ، وَيَصِحُّ حَمْلُهُ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يُضَارُّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ} (الْبَقَرَةِ: 282) قِيلَ: الْمُرَادُ يُضَارِرْ، وَقِيلَ: يُضَارَرْ أَيِ الْكَاتِبُ وَالشَّهِيدُ لَا يُضَارَرْ، فَيَكْتُمُ الشَّهَادَةَ وَالْخَطَّ؛ وَهَذَا أَظْهَرُ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّ مَنْ دَعَا الْكَاتِبَ وَالشَّهِيدَ لَا يُضَارِرْهُ فَيَطْلُبُهُ فِي وَقْتٍ فِيهِ ضَرَرٌ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} (الْبَقَرَةِ: 233) فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَذَا اللَّفْظِ كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ؛ أَمَّا إِذَا قُلْنَا بِجَوَازِ اسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرِكِ فِي مَعْنَيَيْهِ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا إِذَا قُلْنَا بِالْمَنْعِ، فَبِأَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ قَدْ خُوطِبَ بِهِ مَرَّتَيْنِ: مَرَّةً أُرِيدَ هَذَا وَمَرَّةً هَذَا، وَقَدْ جَاءَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: لَا يَفْقَهُ الرَّجُلُ كُلَّ الْفِقْهِ حَتَّى يَرَى لِلْقُرْآنِ وُجُوهًا كَثِيرَةً. رَوَاهُ أَحْمَدُ. أَيْ يُرِيدُ اللَّفْظَ الْوَاحِدَ يَحْتَمِلُ مَعَانِيَ مُتَعَدِّدَةً، وَلَا يَقْتَصِرُ بِهِ عَلَى ذَلِكَ الْعِلْمِ أَنَّهُ يَصْلُحُ لِهَذَا وَلِهَذَا فَإِذَا كَانَتِ الْمَعَانِي لَيْسَتْ مُتَضَادَّةً بَلْ كُلُّهَا حَقٌّ صَلُحَ أَنْ يُقَالَ يُحْتَمَلُ مِنَ الْآيَةِ هَذَا وَهَذَا. وَقَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيِّ فِي مُقَدِّمَةِ تَفْسِيرِهِ: مَا لَا يَحْتَمِلُ إِلَّا مَعْنًى وَاحِدًا حُمِلَ عَلَيْهِ، وَمَا احْتَمَلَ مَعْنَيَيْنِ فَصَاعِدًا بِأَنْ وُضِعَ لِأَشْيَاءَ مُتَمَاثِلَةٍ؛ كَالسَّوَادِ حُمِلَ عَلَى الْجِنْسِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، وَإِنْ وُضِعَ لِمَعَانٍ مُخْتَلِفَةٍ؛ فَإِنْ ظَهَرَ أَحَدُ الْمَعْنَيَيْنِ حُمِلَ عَلَى الظَّاهِرِ إِلَّا أَنْ يَقُومَ الدَّلِيلُ، وَإِنِ اسْتَوَيَا، سَوَاءً كَانَ الِاسْتِعْمَالُ فِيهِمَا حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا، أَوْ فِي أَحَدِهِمَا حَقِيقَةً وَفِي الْآخَرِ مَجَازًا كَلَفْظِ الْعَيْنِ وَالْقُرْءِ وَاللَّمْسِ، فَإِنْ تَنَافَى الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فَهُوَ مُجْمَلٌ، فَيُطْلَبُ الْبَيَانُ مِنْ غَيْرِهِ، وَإِنْ لَمْ يَتَنَافَ، فَقَدْ مَالَ قَوْمٌ إِلَى الْحَمْلِ عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ، وَالْوَجْهُ التَّوَقُّفُ فِيهِ، لِأَنَّهُ مَا وُضِعَ لِلْجَمِيعِ، بَلْ وُضِعَ لِآحَادِ مُسَمَّيَاتٍ عَلَى الْبَدَلِ، وَادِّعَاءُ إِشْعَارِهِ بِالْجَمِيعِ بِعِيدٌ؛ نَعَمْ يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ جَمِيعَ الْمَحَامِلِ، وَلَا يَسْتَحِيلُ ذَلِكَ عَقْلًا، وَفِي مِثْلِ هَذَا يُقَالُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ كَذَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كَذَا.
وَقَدْ يُنْفَى الشَّيْءُ وَيُثْبَتُ نَحْوُ قَوْلِهِ (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى) بِاعْتَبَارَيْنِ كَمَا سَبَقَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} (الْأَنْفَالِ: 17) ثُمَّ أَثْبَتُهُ لِسِرٍّ غَامِضٍ؛ وَهُوَ أَنَّ الرَّمْيَ الثَّانِيَ غَيْرُ الْأَوَّلِ؛ فَإِنَّ الْأَوَّلَ عَنَى بِهِ الرَّمْيَ بِالرُّعْبِ، وَالثَّانِيَ عَنَى بِهِ بِالتُّرَابَ حِينَ رَمَى النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي وُجُوهِ أَعْدَائِهِ بِالتُّرَابِ وَالْحَصَى، وَقَالَ: شَاهَتِ الْوُجُوهُ، فَانْهَزَمُوا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ يُخْبِرُهُ أَنَّ انْهِزَامَهُمْ لَمْ يَكُنْ لِأَجْلِ التُّرَابِ، وَإِنَّمَا هُوَ بِمَا أَوْقَعَ فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الرُّعْبِ.
وَأَمَّا مَا فِيهِ مِنَ الْإِجْمَالِ فِي الظَّاهِرِ فَكَثِيرٌ، وَلَهُ أَسْبَابٌ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَعْرِضُ مِنْ أَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ مُشْتَرِكَةٍ وَقَعَتْ فِي التَّرْكِيبِ، مِنْ أَسْبَابِ الْإِجْمَالِ الظَّاهِرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} (الْقَلَمِ: 20) قِيلَ: مَعْنَاهُ كَالنَّهَارِ مُبْيَضَّةً لَا شَيْءَ فِيهَا، وَقِيلَ كَاللَّيْلِ مُظْلِمَةً لَا شَيْءَ فِيهَا. وَكَقَوْلِهِ: {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} (التَّكْوِيرِ: 17) قِيلَ: أَقْبَلَ وَأَدْبَرَ. وَكَالْأُمَّةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ} (الْقَصَصِ: 23) بِمَعْنَى الْجَمَاعَةِ، وَفِي قَوْلِهِ: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} (النَّحْلِ: 120) بِمَعْنَى الرَّجُلِ الْجَامِعِ لِلْخَيْرِ الْمُقْتَدَى بِهِ، وَبِمَعْنَى الدِّينِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} (الزُّخْرُفِ: 22 وَ 23) وَبِمَعْنَى الزَّمَانِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} (يُوسُفَ: 45). وَكَالذُّرِّيَّةِ فَإِنَّهَا فِي الِاسْتِعْمَالِ الْعُرْفِيِّ الْأَدْنَى وَمِنْهُ: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ} (الْأَنْعَامِ: 84) وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى " الْأَعْلَى " بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ} (آلِ عِمْرَانَ: 33) الْآيَةَ ثُمَّ قَالَ: {ذُرِّيَّةٌ} (آلِ عِمْرَانَ: 34) وَبِهَا يُجَابُ عَنِ الْإِشْكَالِ الْمَشْهُورِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} (يس: 41) عَلَى بَحْثٍ فِيهِ. وَقَالَ مَكِّيٌّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} (الزُّخْرُفِ: 81) أَيْ أَوَّلُ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ. وَمَنْ قَالَ الْآنِفِينِ، فَقَوْلُهُ مَرْدُودٌ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْعَبِدِينِ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُقَالُ: عَبِدَ مِنْ كَذَا، أَيْ أَنِفَ.
الثَّانِي: مِنْ حَذْفٍ فِي الْكَلَامِ كَقَوْلِهِ: {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} مِنْ أَسْبَابِ الْإِجْمَالِ الظَّاهِرِ (النِّسَاءِ: 127) قِيلَ: مَعْنَاهُ تَرْغَبُونَ فِي نِكَاحِهِنَّ لِمَالِهِنَّ. وَقِيلَ مَعْنَاهُ: عَنْ نِكَاحِهِنَّ لِزَمَانَتِهِنَّ، وَقِلَّةِ مَالِهِنَّ. وَالْكَلَامُ يَحْتَمِلُ الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: رَغِبْتُ عَنِ الشَّيْءِ إِذَا زَهِدْتَ فِيهِ، وَرَغِبْتُ فِي الشَّيْءِ، إِذَا حَرِصْتَ عَلَيْهِ فَلَمَّا رُكِّبَ الْكَلَامُ تَرْكِيبًا حُذِفَ مَعَهُ حَرْفُ الْجَرِّ احْتَمَلَ التَّأْوِيلَيْنِ جَمِيعًا. وَجَعَلَ مِنْهُ بَعْضُهُمْ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: {، فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} (الْآيَتَانِ: 78 وَ 79) أَيْ يَقُولُونَ: (مَا أَصَابَكَ) قَالَ: وَلَوْلَا هَذَا التَّقْدِيرُ لَكَانَ مُنَاقِضًا لِقَوْلِهِ: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} (النِّسَاءِ: 78). وَقَوْلَهُ: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً} (الْإِسْرَاءِ: 59)، أَيْ آيَةً مُبْصِرَةً، فَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِقَتْلِهَا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ النَّاقَةَ كَانَتْ مُبْصِرَةً لَا عَمْيَاءَ.
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} مِنْ أَسْبَابِ الْإِجْمَالِ الظَّاهِرِ (الْبَقَرَةِ: 237) فَالضَّمِيرُ فِي (يَدِهِ) يَحْتَمِلُ عَوْدَهُ عَلَى الْوَلِيِّ وَعَلَى الزَّوْجِ، وَرُجِّحَ الثَّانِي لِمُوَافَقَتِهِ لِلْقَوَاعِدِ، فَإِنَّ الْوَلِيَّ لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْ مَالِ يَتِيمِهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَحَمْلُ الْكَلَامِ الْمُحْتَمِلِ عَلَى الْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ أَوْلَى. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ خِطَابًا لِلْأَزْوَاجِ، لَقَالَ: إِلَّا أَنْ تَعْفُوَ بِالْخِطَابِ لِأَنَّ صَدْرَ الْآيَةِ خِطَابٌ لَهُمْ، بِقَوْلِهِ: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} (الْبَقَرَةِ: 237) إِلَى قَوْلِهِ: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} (الْبَقَرَةِ: 237). قُلْنَا: هُوَ الْتِفَاتٌ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ، وَهُوَ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَدِيعِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (فَاطِرٍ: 10) فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ الْفَاعِلِيُّ الَّذِي فِي (يَرْفَعُهُ) عَائِدًا عَلَى الْعَمَلِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْكَلِمَ الطَّيِّبَ، وَهُوَ التَّوْحِيدُ، يَرْفَعُ الْعَمَلَ الصَّالِحَ؛ لِأَنَّهُ لَا تَصْلُحُ الْأَعْمَالُ إِلَّا مَعَ الْإِيمَانِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا عَلَى الْكَلِمِ، وَيَكُونُ مَعْنَاهُ أَنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ هُوَ الَّذِي يَرْفَعُ الْكَلِمَ الطَّيِّبَ؛ وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ الْإِيمَانَ فِعْلٌ وَعَمَلٌ وَنِيَّةٌ لَا يَصِحُّ بَعْضُهَا إِلَّا بِبَعْضٍ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا} (الْعَادِيَاتِ: 4 وَ 5) فَالْهَاءُ الْأَوْلَى كِنَايَةٌ عَنِ الْحَوَافِرِ وَهِيَ مَوْرِيَاتٍ، أَيْ أَثَرْنَ بِالْحَوَافِرِ نَقْعًا؛ وَالثَّانِيَةُ كِنَايَةٌ عَنِ الْإِغَارَةِ؛ أَيِ الْمُغِيرَاتِ صُبْحًا {فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا} (الْآيَةِ: 5) جَمْعَ الْمُشْرِكِينَ؛ فَأَغَارُوا بِجَمْعِهِمْ. وَقَدْ صَنَّفَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ كِتَابًا فِي تَعْيِينِ الضَّمَائِرِ الْوَاقِعَةِ فِي الْقُرْآنِ فِي مُجَلَّدَيْنِ.
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} (آلِ عِمْرَانَ: 7) فَقَوْلُهُ: (الرَّاسِخُونَ) يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى اسْمِ اللَّهِ- تَعَالَى، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءَ كَلَامٍ، وَهَذَا الثَّانِي هُوَ الظَّاهِرُ وَيَكُونُ حَذَفَ " أَمَّا " الْمُقَابَلَةَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} (آلِ عِمْرَانَ: 7) وَيُؤَيِّدُهُ آيَةُ الْبَقَرَةِ: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا} (الْآيَةِ: 26).
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} مِنْ أَسْبَابِ الْإِجْمَالِ الظَّاهِرِ (الْبَقَرَةِ: 232). {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} (الْحَجِّ: 11). {وَسَيِّدًا وَحَصُورًا} (آلِ عِمْرَانَ: 39) وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا صَنَّفَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ مِنْ كُتُبِ غَرِيبِ الْقُرْآنِ.
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} مِنْ أَسْبَابِ الْإِجْمَالِ الظَّاهِرِ (ق: 37) وَ{يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} (الشُّعَرَاءِ: 223) بِمَعْنَى يَسْمَعُونَ، وَلَا يَقُولُ أَحَدٌ الْآنَ: أَلْقَيْتُ سَمْعِي. وَكَذَا قَوْلُهُ: {ثَانِيَ عِطْفِهِ} (الْحَجِّ: 9) أَيْ مُتَكَبِّرًا. وَقَوْلُهُ: {أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ} (هُودٍ: 5) أَيْ يُسِرُّونَ مَا فِي ضَمَائِرِهِمْ. وَكَذَا: {فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ} أَيْ نَادِمًا (الْكَهْفِ: 42). وَكَذَا: {فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ} (إِبْرَاهِيمَ: 9) أَيْ لَمْ يَتَلَقَّوُا النِّعَمَ بِشُكْرٍ.
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى} (طه: 129) تَقْدِيرُهُ: وَلَوْ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ وَأَجَلٌ مُسَمًّى لَكَانَ لِزَامًا. وَلَوْلَا هَذَا التَّقْدِيرُ لَكَانَ مَنْصُوبًا كَاللِّزَامِ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا} (الْأَعْرَافِ: 187) أَيْ يَسْأَلُونَكَ عَنْهَا كَأَنَّكَ حَفِيٌّ. وَقَوْلِهِ: {لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ} (الْأَنْفَالِ: 4 وَ 5) فَهَذَا غَيْرُ مُتَّصِلٍ، وَإِنَّمَا هُوَ عَائِدٌ عَلَى قَوْلِهِ: {قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} (الْأَنْفَالِ: 1)، {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ} (الْأَنْفَالِ: 5) فَصَارَتْ أَنْفَالُ الْغَنَائِمِ لَكَ إِذْ أَنْتَ رَاضٍ بِخُرُوجِكَ وَهُمْ كَارِهُونَ، فَاعْتَرَضَ بَيْنَ الْكَلَامِ الْأَمْرُ بِالتَّقْوَى وَغَيْرُهُ. وَقَوْلِهِ: {حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ} (الْمُمْتَحَنَةِ: 4) مَعْنَاهُ: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ، إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ.
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَطُورِ سِينِينَ} مِنْ أَسْبَابِ الْإِجْمَالِ الظَّاهِرِ (التِّينِ: 2) أَيْ طَوْرِ سِينَا، وَقَوْلِهِ: {سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ} (الصَّافَّاتِ: 130) أَيْ إِلْيَاسَ، وَقِيلَ: إِدْرِيسَ، وَفِي حَرْفِ ابْنِ مَسْعُودٍ " إِدْرَاسِينَ ".
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ أَنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} (يُونُسَ: 66) مَعْنَاهُ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِلَّا الظَّنَّ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} (الْأَعْرَافِ: 75) مَعْنَاهُ: الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِمَنْ آمَنَ مِنَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا.
اعْلَمْ أَنَّ الْكِتَابَ هُوَ الْقُرْآنُ الْمَتْلُوُّ؛ وَهُوَ إِمَّا نَصٌّ، وَهُوَ مَا لَا يَحْتَمِلُ إِلَّا مَعْنًى، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} (الْبَقَرَةِ: 196) وَإِمَّا ظَاهِرٌ وَهُوَ مَا دَلَّ عَلَى مَعْنًى مَعَ تَجْوِيزِ غَيْرِهِ. وَالرَّافِعُ لِذَلِكَ الِاحْتِمَالِ قَرَائِنُ لَفْظِيَّةٌ وَمَعْنَوِيَّةٌ، وَاللَّفْظِيَّةُ تَنْقَسِمُ إِلَى مُتَّصِلَةٍ وَمُنْفَصِلَةٍ، أَمَّا الْمُتَّصِلَةُ فَنَوْعَانِ: نَوْعٌ يَصْرِفُ اللَّفْظَ إِلَى غَيْرِ الِاحْتِمَالِ الَّذِي لَوْلَا الْقَرِينَةُ لِحُمِلَ عَلَيْهِ، وَيُسَمَّى تَخْصِيصًا وَتَأْوِيلًا. وَنَوْعٌ يَظْهَرُ بِهِ الْمُرَادُ مِنَ اللَّفْظِ، وَيُسَمَّى بَيَانًا. فَالْأَوَّلُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} (الْبَقَرَةِ: 275) فَإِنَّهُ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ- سُبْحَانَهُ-: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} (الْبَقَرَةِ: 275) الْبَعْضُ دُونَ الْكُلِّ الَّذِي هُوَ ظَاهِرٌ بِأَصْلِ الْوَضْعِ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ ظَاهِرٌ فِي الِاحْتِمَالِ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ الْقَرِينَةُ فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ. وَلِلشَّافِعِيِّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- قَوْلٌ بِإِجْمَالِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ الرِّبَا مُجْمَلٌ، وَهُوَ فِي حُكْمِ الْمُسْتَثْنَى مِنَ الْبَيْعِ، وَاسْتِثْنَاءُ الْمَجْهُولِ مِنَ الْمَعْلُومِ يَعُودُ بِالْإِجْمَالِ عَلَى أَصْلِ الْكَلَامِ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ؛ فَإِنَّ الرِّبَا عَامٌّ فِي الزِّيَادَاتِ كُلِّهَا، وَكَوْنُ الْبَعْضِ غَيْرَ مُرَادٍ نَوْعُ تَخْصِيصٍ، فَلَا تَتَغَيَّرُ بِهِ دَلَالَةُ الْأَوْضَاعِ. وَمِثَالُ النَّوْعِ الثَّانِي قَوْلُهُ تَعَالَى: {مِنَ الْفَجْرِ} (الْبَقَرَةِ: 187) فَإِنَّهُ فَسَّرَ مُجْمَلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} (الْبَقَرَةِ: 187) إِذْ لَوْلَا: {مِنَ الْفَجْرِ} لَبَقِيَ الْكَلَامُ الْأَوَّلُ عَلَى تَرَدُّدِهِ وَإِجْمَالِهِ. وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ كَانَ يَرْبِطُ فِي رِجْلِهِ الْخَيْطَ الْأَبْيَضَ وَالْأَسْوَدَ، وَلَا يَزَالُ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ لَوْنُهُمَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ: {مِنَ الْفَجْرِ} فَعَلِمُوا أَنَّهُ أَرَادَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارِ. وَأَمَّا اللَّفْظِيَّةُ الْمُنْفَصِلَةُ فَنَوْعَانِ أَيْضًا: تَأْوِيلٌ وَبَيَانٌ. فَمِثَالُ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (الْبَقَرَةِ: 230) فَإِنَّهُ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (الْبَقَرَةِ: 229) الطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ، إِذْ لَوْلَا هَذِهِ الْقَرِينَةُ لَكَانَ الْكُلُّ مُنْحَصِرًا فِي الطَّلْقَتَيْنِ، وَهَذِهِ الْقَرِينَةُ وَإِنْ كَانَتْ مَذْكُورَةً فِي سِيَاقِ ذِكْرِ الطَّلْقَتَيْنِ، إِلَّا أَنَّهَا جَاءَتْ فِي آيَةٍ أُخْرَى، فَلِهَذَا جُعِلَتْ مِنْ قِسْمِ الْمُنْفَصِلَةِ. وَمِثَالُ الثَّانِي قَوْلُهُ تَعَالَى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} (الْقِيَامَةِ: 22 وَ 23) فَإِنَّهُ دَلَّ عَلَى جَوَازِ الرُّؤْيَةِ وَيُفَسَّرُ بِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} (الْأَنْعَامِ: 103) حَيْثُ كَانَ مُتَرَدِّدًا بَيْنَ نَفْيِ الرُّؤْيَةِ أَصْلًا، وَبَيْنَ نَفْيِ الْإِحَاطَةِ، وَالْحَصْرِ دُونَ أَصْلِ الرُّؤْيَةِ. وَأَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} (الْمُطَفِّفِينَ: 15) فَإِنَّهُ لَمَّا حَجَبَ الْفُجَّارَ عَنْ رُؤْيَتِهِ خِزْيًا لَهُمْ دَلَّ عَلَى إِثْبَاتِهَا لِلْأَبْرَارِ، وَارْتَفَعَ بِهِ الْإِجْمَالُ فِي قَوْلِهِ: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} (الْأَنْعَامِ: 103). وَأَمَّا الْقَرَائِنُ الْمَعْنَوِيَّةُ فَلَا تَنْحَصِرُ وَمِنْ مِثْلِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (الْبَقَرَةِ: 228) فَإِنَّ صِيغَتَهُ صِيغَةُ الْخَبَرِ؛ وَلَكِنْ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى حَقِيقَتِهِ، فَإِنَّهُنَّ قَدْ لَا يَتَرَبَّصْنَ، فَيَقَعُ خَبَرُ اللَّهِ بِخِلَافِ مَخْبَرِهِ، وَهُوَ مُحَالٌ، فَوَجَبَ اعْتِبَارُ هَذِهِ الْقَرِينَةِ حَمْلَ الصِّيغَةِ عَلَى مَعْنَى الْأَمْرِ صِيَانَةً لِكَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى عَنِ احْتِمَالِ الْمُحَالِ. وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ فِيمَا وَرَدَ مِنْ صِيغَةِ الْخَبَرِ؛ وَالْمُرَادُ بِهَا الْأَمْرُ.
|